ط
أخر الاخبار

شخصية المسئولية الجنائية / المسئولية دون خطأ / المسئولية المادية

مبدأ شخصية المسئولية الجنائية:

نظراً لارتباط الركن المعنوي للجريمة - وما يتطلبه من ضرورة توافر الإثم لدى الجاني -  بالمسئولية الجنائية، كان من الطبيعي أن يقترن البحث في توافر المسئولية الجنائية بشخص مرتكب الجريمة دون سواه.

وبما يمنع إقرار مسئولية شخص عما يقع من شخص آخر من أفعال تحت أي مسمى، أو إقرار مسئوليته في الحالات التي لا يمكن وصف إرادته فيها بأنها " آثمة " أي دونما توافر الإثم الجنائي لديه على نحو يقيني.

المسئولية الجنائية في القانون الجنائي, مبدأ شخصية المسئولية الجنائية, المسئولية الجنائية دون خطأ, المسئولية الجنائية المادية
شخصية المسئولية الجنائية / المسئولية دون خطأ / المسئولية المادية

فوجود القصد الجنائي بعنصريه (العلم والإرادة) في الجرائم العمدية، والخطأ في الجرائم غيرالعمدية، ضرورة لا بديل عنها لقيام الجريمة الجنائية وإثبات المسئولية الجنائية في حق الجاني.

فعناصر الركن المعنوي لا تفترض ولا يستعاض عنها بالقرائن القانونية أو غيرها في سبيل إقامة البنيان القانوني للجريمة الجنائية. وهو ما أكدته المحكمة الدستورية العليا في ثنايا أحكامها.

ويتناول الموضوع التالي مبدأ شخصية المسئولية الجنائية من خلال المحاور التالية:

  1. ماهية مبدأ شخصية المسئولية الجنائية وأساسه القانوني.
  2. شخصية المسئولية الجنائية في النظام القانوني الأمريكي والفرنسي والمصري.
  3. المسئولية الجنائية المفترضة.
  4. المسئولية الجنائية دون خطأ.
  5. المسئولية المادية.
  6. أحكام المحكمة الدستورية العليا بشأن المسئولية الجنائية.
  7. أحكام المحكمة العليا الأمريكية في المسئولية الجنائية.
  8. أحكام المجلس الدستوري الفرنسي في مبدأ شخصية المسئولية الجنائية.

وذلك على التفصيل التالي:

الأساس الدستوري لمبدأ شخصية المسئولية الجنائية:

والأساس الدستوري لمبدأ شخصية المسئولية الجنائية هو نص المادة (95) من الدستور التي تقول في مقدمتها أن " العقوبة شخصية، ...."، ومبدأ شخصية العقوبة الجنائية يستلزم حتماً شخصية المسئولية الجنائية.

وهو ما أكدته المحكمة الدستورية العليا حين قررت أن:

" شخصية العقوبة التي كفلها الدستور تفترض شخصية المسئولية الجنائية، بما يؤكد تلازمهما ". كما يمكن استخلاص المبدأ من نص المادة الأولى من قانون العقوبات المصري التي تقضي بسريان أحكامه على " كل من يرتكب في القطر المصري جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيه ".

بما يؤكد اقتران المسئولية الجنائية بشخص مرتكب الجريمة وحده دون سواه، فمن لم يرتكب الجريمة بصفته فاعلاً اصلياً، أو يساهم في ارتكابها باعتباره شريكاً فيها، لا يمكن أن تلحق به المسئولية الجنائية عنها.

وهو ما حرصت المحكمة الدستورية العليا على تأكيده دائماً ومن ذلك قولها أن: " الأصل في الجريمة، أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين كمسئول عنها، وهي عقوبة يجب أن تتوازن وطأتها مع طبيعة الجريمة موضوعها.

بما مؤداه: أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤاخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن " شخصية العقوبة "، " وتناسبها مع الجريمة محلها " مرتبطان بمن يعد قانوناً " مسئولاً عن ارتكابها ".

كما قررت الـمحكمة أن: " المـسئولية التقصيرية وفقاً لقواعد القانون المدني - وقوامها كل عمل غير مشروع ألحق ضرراً بالغير - هي التي يـجوز افـتراض الـخطأ في بعـض صـورها. ولا كـذلك الـمسئولية الـجـنائية، التي لا يـجوز أن يكون الـدليل عـليها مـنـتحلاً، ولا ثـبوتـها مـفترضاً ".

مبدأ شخصية المسئولية الجنائية في النظام الفرنسي والنظام الأمريكي:

كما أكد المجلس الدستوري الفرنسي على مبدأ شخصية المسئولية الجنائية، وحرص من خلال أحكامه على إيضاح القيمة الدستورية للمبدأ، وأن شخصية المسئولية الجنائية هي النتيجة المنطقية للمواد (9،8) من إعلان الحقوق لسنة 1789.

Conseil constitutionnel français, المجلس الدستوري في فرنسا
المجلس الدستوري الفرنسي

وقضى المجلس الدستوري الفرنسي بناء على ذلك أنه:

" لا يمكن معاقبة أي شخص إلا عن فعله الشخصي، ولا تجوز مسائلته إلا عن النشاط المحظور الذي مارسه بنفسه، ولا تقتصر هذه القاعدة على العقوبات الصادرة من المحاكم الجنائية فحسب، وإنما تمتد كذلك إلى كل التدابير التي لها طابع العقاب ولو صدرت من محاكم غير جنائية ".

فطبق المجلس الدستوري مبدأ شخصية المسئولية على الغرامات والرسوم التي تفرض على الأشخاص نتيجة سلوكهم المتضمن تجاهلاً لالتزاماتهم الضريبية، وقرر عدم امتداد تلك الغرامات إلى ورثتهم.

كما قضى بأن المسئولية عن جريمة حمل السلاح بالمخالفة للقانون لا تثبت إلا في حق المتهم الذي كان يحمل السلاح، ولا ترتب مسئولية جماعية.

كما قضت المحكمة العليا الأمريكية بعدم دستورية قانون يقضي باعتبار الوالدين مسئولين جنائياً عن الجرائم التي يرتكبها أولادهم القصر، ورأت في هذا الحكم أن صفة الأبوة لا تعد في ذاتها جريمة.

أحكام المحكمة الدستورية العليا في شأن المسئولية الجنائية:

وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا أن المسئولية الجنائية لا تفترض عن طريق القرائن القانونية، ورفضت المحكمة الاعتراف بالمسئولية المادية أو " المسئولية دون خطأ " في مجال القانون الجنائي، وأرست عدداً من القواعد في هذا الشأن يمكن الإشارة إليها من خلال النقاط التالية:                               

أولاً: عدم دستورية افتراض المسئولية الجنائية لرئيس تحرير الجريدة بصفته فاعلاً أصلياً في الجرائم التي ترتكب بواسطة صحيفته:

كانت المادة (195) من قانون العقوبات، تنص على أنه:

" مع عدم الإخلال بالمسئولية الجنائية لمؤلف الكتابة أو واضع الرسم أو غير ذلك من طرق التمثيل، يعاقب رئيس تحرير الجريدة أو المحرر المسئول عن قسمها الذي حصل فيه النشر إذا لم يكن ثمة رئيس تحرير، بصفته فاعلاً أصلياً للجرائم التي ترتكب بواسطة صحيفته.

ومع ذلك يعفى من المسئولية الجنائية:

1-  إذا أثبت أن النشر حصل بدون علمه، وقدم منذ بدء التحقيق كل ما لديه من المعلومات والأوراق للمساعدة على معرفة المسئول عما نشر.

2- أو إذا أرشد أثناء التحقيق عن مرتكب الجريمة، وقدم كل ما لديه من المعلومات والأوراق لإثبات مسئوليته، وأثبت فوق ذلك أنه لو لم يقم بالنشر لعرض نفسه لخسارة وظيفته في الجريدة أو لضرر جسيم آخر". 

وحين طعن على دستورية المادة المذكورة تأسيساً على مخالفتها لمبدأ شخصية العقوبة ومبدأ شخصية المسئولية الجنائية، قررت المحكمة الدستورية العليا أن:

" اعتبار رئيس تحرير الجريدة فاعلاً أصلياً لجريمة عمدية، ومسئولاً عن ارتكابها، لا يستقيم مع افتراض القصد الجنائي بشأنها، وإلا كان ذلك تشويهاً لخصائصها. فرئيس التحرير وقد أذن بالنشر، لا يكون قد أتى عملاً مكوناً لجريمة يكون به فاعلاً مع غيره.

ذلك أن الشخص لا يعتبر فاعلاً للجريمة إلا من خلال أعمال باشرها تتصل بها وتعتبر تنفيذاً لها. ولئن جاز القول بأن العلانية في الجريمة التي تضمنها النص المطعون فيه لا تتم إلا من خلال الأمر بنشر المقال المتضمن قذفاً وسباً في حق الآخرين.

إلا أن مسئولية رئيس التحرير جنائياً عن تحقق هذه النتيجة، شرطها اتجاه إرادته لإحداثها، ومدخلها علماً يقينياً بأبعاد هذا المقال. ولا كذلك النص المطعون فيه، إذ افترض مسئوليته جنائياً بناء على صفته كرئيس تحرير يتولى شئون الجريدة باعتباره مشرفاً عليها.

فلا يكون مناطها إلا الإهمال في إدارتها، حال أن الإهمال والعمد نقيضان لا يتلاقيان. بل ان رئيس تحرير الجريدة يظل دون غيره مسئولاً عما ينشر فيها، ولو تعددت أقسامها، وكان لكل منها محرر مسئول يباشر عليه سلطة فعلية ".

أما بشأن الإعفاء من المسئولية الوارد بالفقرة الثانية من المادة (195)، فلم يغير من وجهة المحكمة بشأن رفض الاعتراف بدستورية افتراض المسئولية الجنائية، ورأت المحكمة أنه:

" لا ينال مما تقدم، قالة أن البند (أ) من الفقرة الثانية من النص المطعون فيه، قد أعفى رئيس التحرير من المسئولية الجنائية التي أنشأتها في حقه فقرتها الأولى إذا أثبت أن النشر تم بدون علمه، وذلك لأمرين:

أولهما: أن مجرد تمام النشر دون علمه ليس كافياً وفقاً لهذا البند لإعفائه من مسئوليته الجنائية، بل يتعين عليه فوق هذا - إذا أراد التخلص منها - أن يقدم لجهة التحقيق كل الأوراق والمعلومات التي تعينها على معرفة المسئول عما نشر، بما مؤداه: قيام مسئوليته الجنائية، ولو لم يباشر دوراً في إحداثها.

وثانيهما: أن النص المطعون فيه جعل رئيس التحرير مواجهاً بواقعة أثبتتها القرينة القانونية في حقه دون دليل يظاهرها، ومكلفاً بنفيها خلافاً لافتراض البراءة، وهو افتراض جرى قضاء هذه المحكمة على اقترانه بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر من زاوية دستورية وثيقة الصلة بالحق في الدفاع،

ومن بينها أن المتهم لا يكون مكلفاً بدفع اتهام جنائي إلا بعد أن تقدم النيابة العامة بنفسها ما تراه من وجهة نظرها إثباتاً للجريمة التي نسبتها إليه، لينشأ بعدئذ للمتهم الحق في نفيها ودحضها بالوسائل التي يملكها قانوناً.

وحيث إنه فضلاً عما تقدم، فإن رئيس التحرير يظل وفقاً للبند (2) من الفقرة الثانية من النص المطعون فيه، مسئولاً كذلك عن الجرائم التي تضمنها المقال، ولو أثبت أنه لو لم يقم بالنشر، لفقد وظيفته في الجريدة التي يعمل بها، أو تعرض لضرر جسيم آخر،

إذ عليه فوق هذا أن يرشد أثناء التحقيق عن مرتكب الجريمة، وأن يقدم كل ما لديه من الأوراق والمعلومات لإثبات مسئوليته، وهو ما يعني أنه أياً كانت الأعذار التي يقدمها رئيس تحرير الجريدة مثبتاً بها اضطراره إلى النشر،

فإن مسئوليته الجنائية لا تنتفي إلا إذا أرشد عن أشخاص قد لا يعرفهم هم المسئولون عن المقال أو غيره من صور التمثيل، وهو ما يناقض شخصية المسئولية الجنائية التي تفترض ألا يكون الشخص مسئولاً عن الجريمة، ولا أن تفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلاً لها أو شريكاً فيها ".

وبناء على الرؤية السابقة للمحكمة الدستورية العليا؛ حكمت بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة (195) من قانون العقوبات، وثانياً: بسقوط فقرتها الثانية.

وكانت المحكمة الدستورية قد دعمت قضائها السابق بعدم دستورية المادة (195) من قانون العقوبات بالبناء على أساس عملي قوامه استحالة أو مشقة التكليف الملقى على عاتق رئيس تحريرالجريدة بمراجعة كل ما يكتب فيها من مقالات وأخبار، فقالت في حكمها المشار إليه أنه:

" لا يتصور في جريدة تتعدد صفحاتها، وتتزاحم مقالاتها، وتتعدد مقاصدها، أن يكون رئيس التحرير محيطاً بها جميعاً، نافذاً إلى محتوياتها، ممحصاً بعين ثاقبة كل جزئياتها، ولا أن يزن كل عبارة تضمنتها بافتراض سوء نية من كتبها، ولا أن يقيسها وفق ضوابط قانونية قد يدق الأمر بشأنها، فلا تتحد تطبيقاتها ".

وقد عبرت رؤية المحكمة الدستورية العليا عن قاعدة قانونية أصيلة وهي أنه:

" لا التزام بمستحيل ".

إلا أن المحكمة تراجعت جزئياً عن هذه القاعدة في قضاء لاحق، وتبنّت رأياً مغايراً بشأن مشقة التكليف الملقى على عاتق رئيس تحرير الجريدة بمراجعة كل ما يكتب في جريدته، واعتباره تكليفاً شبه مستحيل.

فبعد صدور الحكم السابق بعدم دستورية نص المادة (195) من قانون العقوبات؛ أصدر المشرع القرار بقانون رقم (147) لسنة 2006، واضعاً نص المادة (200 مكرر " أ ") من قانون العقوبات على النحو التالي:

" يكون الشخص الاعتباري مسئولاً بالتضامن مع المحكوم عليه من العاملين لديه، عن الوفاء بما يحكم به من التعويضات في الجرائم التي ترتكب بواسطة الشخص الاعتباري من الصحف أو غيرها من طرق النشر، ويكون مسئولاً بالتضامن عن الوفاء بما يحكم به من عقوبات مالية إذا وقعت الجريمة من رئيس التحرير أو المحرر المسئول.

وتكون مسئولية رئيس التحرير أو من يقوم مقامه في الإشراف على النشر مسئولية شخصية. ويعاقب على أي من الجرائم المشار إليها في الفقرة السابقة بغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تجاوز عشرة آلاف جنيه، وذلك إذا ثبت أن النشر كان نتيجة إخلاله بواجب الإشراف ".

ومن الواضح أن المشرع - بمقتضى المادة السابقة - قد أقام في حق رئيس تحرير الجريدة، المسئولية الجنائية عن جريمة غير عمدية، قوامها إهماله في الإشراف على ما ينشر بجريدته، ورتب على هذه المسئولية عقوبة الغرامة.

وقد تعرضت المادة (200 مكرر(أ)) من قانون العقوبات بدورها للطعن بعدم الدستورية، إلا أن موقف المحكمة الدستورية العليا اختلف هذه المرة، فقررت أن:

" المشرع قد أثَّم بالفقرة الثانية من المادة (200 مكرراً (أ)) من قانون العقوبات، إخلال رئيس التحرير أو من يقوم مقامه، بمسئوليته الإشرافية، إذا نجم عن هذا الإخلال ارتكاب جريمة بطريق النشر بواسطة الجريدة التي يتولى مسئولية رئاسة تحريرها.

وكانت المادة الرابعة والخمسون من القانون رقم (96) لسنة 1996 بشـأن تنظيم الصحافة، قد أوجبت أن يكون لكل صحيفة رئيس تحرير مسئول، يشـرف إشرافاً فعلياً على ما ينشر بها.

وعليه، فإن الجريمة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة (200مكرراً (أ)) من قانون العقوبات تكون إحدى الجرائم غير العمدية، فلا تقع إلا إذا أخل رئيس التحرير، بخطئه وإهماله، إخلالاً فعليّاً بواجبات الإشراف على العمل بالمطبوعة التي يترأس تحريرها، مما ينجم عنه نشر ما يعد جريمة بتلك المطبوعة - وهو ما أكدته الأعمال التحضيرية للقانون رقم (147) لسنة 2006.

وبهذه المثابة؛ فإنه يجب لإدانة رئيس التحرير عن هذه الجريمة، أن يثبت على وجه القطع واليقين: إهماله وتقصيره في الاضطلاع بواجبه في الإشراف، وأن هذا الواجب داخل في سلطاته، وكان في مقدوره القيام به، وأن جريمة النشر ما وقعت إلا نتيجة لهذا الإهمال والتقصير.

وتقدير كل هذه العناصر في كل حالة على حدة موكل للقاضي، يقدرها بمعيار ما يُنتظر من الرجل العادي القيام به في الظروف ذاتها التي وقعت فيها الجريمة المنسوبة للمتهم، ويقع عبء إثبات أركان الجريمة من فعل أو امتناع ونتيجة وخطأ، إثباتاً كاملاً على عاتق النيابة العامة.

ومن ثم؛ فإن رئيس التحرير لا يسأل إلا عن فعله شخصيّاً، وهو ما حرصت الفقرة المطعون عليها على توكيده إذ نصت في صدرها على أن " تكون مسئولية رئيس التحرير أو من يقوم مقامه في الإشراف على النشر مسئولية شخصية ".

وعلى ذلك، فإن صياغة صدر النص المطــعون عليه، تكون قد كرست شخصية المسئولية، فلا يسأل عن الجريمة المنصوص عليها فيها سوى من قارفها بالفعل، فالإثم شخصي لا يقبل الاستنابة، ليبرأ بذلك النص المطعون عليه من قالة العدوان على الحرية الشخصية أو افتراض المسئولية الجنائية.

وقررت المحكمة بناء على ذلك؛ رفض الطعن بعدم دستورية المادة (200 مكرر " أ ") من قانون العقوبات.

ولا نؤيد ما انتهت إليه المحكمة الدستورية العليا في حكمها السابق، ولا رؤيتها الجديدة التي تفترض معقولية تكليف رئيس تحرير الجريدة بمراجعة كل ما ينشر بها من مقالات وأخبار.

ونعتقد أن رأي المحكمة الوارد في ثنايا حكمها بعدم دستورية المادة (195) من قانون العقوبات، والمتضمن استحالة قيام رئيس تحرير الجريدة بمراجعة كل ما ينشر بها من مقالات، كان أقرب للصواب.

لاسيما، بالنسبة للصحف التي تصدر يومياً، والتي يتم تحرير مقالاتها ومراجعتها وطباعتها خلال ساعات معدودة.

كما نعتقد أن مباركة المحكمة الدستورية لإصرار المشرع على تقرير المسئولية الجنائية لرؤساء تحرير الصحف لم تكن موفقة، وتؤدي إلى خلق نوع من الرقابة الذاتية المبالغ فيها داخل الصحف، تمارس من جانب رئيس تحرير الجريدة على كل العاملين بها من كُتّاب وصحفيين.

وذلك تجنباً للمساءلة الجنائية، مما ينعكس بالسلب على حرية الصحافة والرأي والتعبير. ولذلك؛ كان من الأوفق الاكتفاء بمسئولية كاتب المقال أو الخبر عما ينشره بالجريدة، ويشتمل على ما قد يشكل جريمة جنائية.

المحكمة العليا, القضاء الدستوري, المحكمة الاتحادية, المحكمة الفيدرالية العليا
المحكمة الدستورية العليا

ثانياً: عدم دستورية إقرار المسئولية الجنائية لرئيس الحزب مع رئيس تحرير جريدة الحزب عما ينشر في صحيفة الحزب:

كانت الفقرة الثانية من المادة (15) من قانون الأحزاب السياسية الصادر بالقانون رقم (40) لسنة 1977، والمعدل بالقرار بقانون رقم (36) لسنة 1979، تنص على أن: " يكون رئيس الحزب مسئولاً مع رئيس تحرير صحيفة الحزب عما ينشر فيها ".

وقد كان الطعن على دستورية هذه المادة أسبق من الطعن على دستورية المادة (195) من قانون العقوبات المشار إليها بالحكم السابق، فاقتصرت المحكمة - وفقاً لالتزامها بطلبات المدعي وشرط المصلحة في الدعوى الدستورية - بالبحث في دستورية المادة (15) من قانون الأحزاب السياسية،

وما كانت تقرره من مسئولية رئيس الحزب إلى جانب مسئولية رئيس تحرير جريدة الحزب وفقاً للمادة (195) من قانون العقوبات التي قُضي بعدم دستوريتها في وقت لاحق.

وبشأن المادة (15) من قانون الأحزاب السياسية، قررت المحكمة أن:

" المسئولية الجنائية التي قررها النص المطعون فيه في شأن رئيس الحزب، هي في حقيقتها نوع من المسئولية بطريق القياس، فقد ألحق المشرع مسئولية رئيس الحزب بمسئولية رئيس التحرير، وربطها بها، وجعلها من جنسها، وأقامها من نسيجها، وأضافها إليها لتتبعها ثبوتاً ونفياً،

وليحيلها إلى مسئولية مفترضة في كل مكوناتها وعناصرها، فلا تقوم الجريمة بها بناء على أفعال محددة فصَّلها المشرع ناهياً رئيس الحزب عن إتيانها بما لا غموض فيه، ولا على إرادة واعية تعطيها دلالتها الإجرامية وتوجهها وجهة بذاتها لبلوغ أغراض بعينها،

وإنما حسر المشرع عن الجرائم التي تقوم بها مسئوليته، تلك الخصائص التي ينبغي أن تكون من مقوماتها لتمنحها ذاتيتها، ذلك أن مسئولية رئيس التحرير دون غيرها هي التي تعد موطئاً لمسئولية رئيس الحزب ودليلاً عليها، بل وبديلاً عن ثبوتها، تنهض معها وتزول بزوالها،

بما يؤكد تضامم هاتين المسئوليتين، وأنهما في حقيقتهما مسئولية واحدة، هي تلك التي تقوم في شأن رئيس التحرير، وحملاً عليها ".

ففضلاً عن رفض المحكمة الدستورية الاعتراف بـ المسئولية الجنائية المفترضة، أسست المحكمة الدستورية قضائها في هذا الحكم على اعتبارات المنطق القانوني السليم، فقررت أن:

" المسئولية الجنائية لرئيس الحزب لا يتصور تقريرها إلا بناء على افتراض مؤداه أن الصحيفة الحزبية زمامها بيده، يستقل بأمورها ويهيمن عليها، وأن إهمالاً قد وقع منه في مجال تقييم ما ينشر بها.

وهو افتراض لا يستقيم وطبائع الأشياء، وتأباه العدالة الجنائية ويناهض مقوماتها، وقواعد إدارتها وذلك من وجهين:

أولهما: أن هذا الافتراض يعني ألا تنشر مادة في الصحيفة الحزبية إلا بعد عرضها عليه، ليقوم بتقييمها وفقاً لمعايير ذاتية يستقل بتقديرها ومراجعتها، ويعبر من خلالها عن توجهه الخاص لينفرد بالصحيفة الحزبية محدداً املاءً ما ينشر فيها.

ومن ثم يغدو اختصاص رئيس التحرير منعدماً في نطاقها، فلا يباشر سلطاناً عليها، وتصير مسئوليته عنها لغواً وهو ما يناقض التنظيم العقابي القائم.

ذلك أن مسئولية رئيس التحرير وفقاً للنص المطعون فيه، هي الأصل الذى تقوم عليه، أو تتفرع عنه مسئولية رئيس الحزب، وهو ما يقتضي إثباتها ابتداء لتنهض بها ومعها - وبقوة القانون - مسئولية رئيس الحزب.

ثانيهما: أن هذا الافتراض لو صدق في شأن رئيس الحزب، لكان مؤداه أن تقوم مسئوليته الجنائية استقلالاً عن غيره، ولخصائص ذاتيه تكمن فيها محددة ملامحها، ولصار لازماً أن يراقب مادة النشر في كل جزئياتها، متخلياً بذلك عن واجباته الحزبية بتمامها ".

ثالثاً: عدم دستورية افتراض المسئولية الجنائية عن طريق القرائن القانونية:

كانت المواد (117،38،37) من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم (66) لسنة 1963، تقضي بأن مجرد وجود نقص غير مبرر في الطرود التي تم تفريغها من السفينة أو الطائرة عما هو مدون بشأنها في قائمة الشحن قرينة على تهريبها،

وترتب المسئولية الجنائية في حق ربابنة السفن أو من يمثلونهم وكذلك قادة الطائرات، سواء اتصل هذا النقص بعدد الطرود أو بمحتوياتها، وقررت - بناء على ذلك - توقيع عقوبة الغرامة على ربابنة السفن أو من يمثلونهم وقادة الطائرات.

ورأت المحكمة الدستورية العليا في شأن المواد سالفة الذكر أنه:

" لا يجوز أن يمتد اختصاص السلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، إلى إحداثها لقرائن قانونية تنفصل عن واقعها ولا تربطها بالتالي ثمة علاقة منطقية بالنتائج التي رتبتها عليها،

فجريمة التهريب الجمركي من الجرائم العمدية التي لا يجوز افتراضها، ولا تتوافر أركانها إلا بإرادة ارتكابها، ولا تعتبر الشبهة التي تحيطها ويظن معها الوقوع فيها، سلوكاً محدداً أتاه جانٍ، بل توهماً لا يقوم به دليل، ولا تنهض به المسئولية الجنائية؛

وكان المشرع قد أقام من مجرد وجود نقص في عدد الطرود المفرغة أو محتوياتها، قرينة على تهريبها لا يدفعها المتهمون عنهم إلا بتقديمهم ما ينقضها، فلا يكون إخفاقهم في نفيها، إلا تقريراً لمسئوليتهم الجنائية بما يناقض افتراض براءتهم ".

ويتضح من جملة الأحكام السابقة، أنه لا مجال لدى القضاء الدستوري لافتراض المسئولية الجنائية أو الاعتراف بما يسمى " المسئولية الجنائية دون خطأ " في مجال القانون الجنائي، أو ما يعرف بالمسئولية عن الجرائم المادية.

المسئولية الجنائية دون خطأ
المسئولية الجنائية دون خطأ

وهي الجرائم التي تقوم بمجرد ارتكاب الفعل المادي المكون للجريمة وإسناده إلى مرتكبها دون الحاجة إلى إثبات خطأ الجاني بالمفهوم الواسع للخطأ (القصد الجنائي والخطأ غير العمدي)، لتقوم المسئولية عن هذه الجرائم بتحقق الركن المادي لها فقط.

والواقع ان الإفراط في تغليب المذهب الموضوعي في معالجة الركن المعنوي للجريمة يفقد المسئولية الجنائية " ذاتيتها " في مواجهة الأنواع الأخرى من المسئولية القانونية.

فالقانون الجنائي يتعين دائماً أن يكون آخر " سلاح قانوني " يستخدم ضد منتهكي القواعد القانونية، وهو - أي القانون المشار إليه - عندما يتدخل فإنه ينبغي أن يقصد الشخص قبل الفعل، أو المخالف قبل المخالفة ذاتها، أو الإرادة الآثمة قبل النتيجة الضارة.

فإذا تقررت المسئولية الجنائية بناء على اعتبارات موضوعية بعيدة عن شخص الجاني، فمعنى ذلك أننا نفرغ تلك المسئولية من محتواها الحقيقي ونجردها من وظيفتها الرئيسية ونفقدها تميزها الذي طالما انفردت به.

المسئولية الجنائية في قضاء المحكمة العليا الأمريكية:

وقد دفع غير مرة أمام المحكمة العليا الاتحادية للولايات المتحدة الأمريكية، بأن التشريعات التي تقرر مسئولية جنائية بدون خطأ تخالف ضمانة الحماية العامة للقوانين Due Process Of Law  كواحدة من الضمانات الدستورية المتضمنة في وثيقة الحقوق.

ولكن ردود فعل المحكمة العليا الاتحادية ازاء الدفع لم تكن حاسمة، ويصعب استخلاص حلول واضحة من قضاء المحكمة العليا بخصوص الموضوع.

المحكمة الفيدرالية العليا, المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية, المحكمة الاتحادية
المحكمة العليا الأمريكية US Supreme Court

ففي قضية United States V. Balint دفع المتهم بأن إدانته عن حيازة مخدر دون علم منه بحقيقته تخالف تلك الضمانة، ولكن المحكمة لم تستجب للدفع.

وفي قضية United States V. California ذهبت المحكمة العليا إلى أن سلطة المشرع في إصدار تشريعات لا تعتد بالركن المعنوي ليست مطلقة.

وتطبيقاً لذلك؛ قضت بعدم دستورية لائحة صدرت في " لوس أنجلوس " تقرر عقوبة جنائية على بيع كتب مخلة بالحياء، لأن محاكم الولاية اعتبرت علم البائع بطبيعة الكتب التي يبيعها غير لازم لقيام الجريمة.

وفي قضية Lambert V. California ألغت المحكمة العليا حكماً قضى بإدانة شخص لعدم قيامه بتسجيل نفسه في السجل المعد لذلك استناداً إلى أن مثل تلك الإدانة تخالف ضمانة الحماية القانونية العامة due process of law التي تتطلب ضرورة العلم باللائحة التي تفرض الالتزام بالتسجيل.

وفي قضية Com. V. Koczwara ذهبت ذات المحكمة إلى أن تقرير الحبس من أجل المسئولية بدون خطأ عن فعل الغير يتضمن مخالفة لضمانة الحماية القانونية العامة.

المسئولية الجنائية دون خطأ والمسئولية المادية:

ولا نعتقد في صحة الرأي القائل بأن المحكمة الدستورية العليا قد تبنت موقفاً مؤيداً لإقرار المسئولية المادية أو المسئولية دون خطأ في مجال التجريم والعقاب، استناداً في ذلك القول إلى حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم (28) لسنة 17 قضائية دستورية بتاريخ 2/12/1995، والذي جاء فيه أنه:

" بدا هذا الاتجاه متصاعداً إثر الثورة الصناعية التي تزايد معها عدد العمال المعرضين لمخاطر أدواتها وآلاتها ومصادر الطاقة التي تحركها. واقترن ذلك بتعدد وسائل النقل وتباين قوتها، وبتكدس المدن وازدحام أحيائها، وبغلبة نواحي الإخلال بالصحة العامة،

وبوجه خاص من خلال الاتصال بالمواد الغذائية سواء عند إنتاجها أو توزيعها وتداولها أو بمراعاة نوعيتها. وكان لازماً بالتالي - ولمواجهة تلك المخاطر- أن يفرض المشرع على المسئولين عن إدارة الصناعة أو التجارة وغيرهم، قيوداً كثيرة غايتها أن ينتهج المخاطبون بها سلوكاً قويماً موحداً،

وذلك ببذل العناية التي يتوقعها المشرع من أوساطهم، ليكون النكول عنها - وبغض النظر عن نواياهم - دالاً على تراخي يقظتهم، ومستوجباً عقابهم.

غير أن تقرير هذا النوع من الجرائم في ذلك المجال، ظل مرتبطاً بطبيعتها ونوعيتها، وحصراً في الحدود الضيقة التي تقوم فيها علاقة مسئولية بين من يرتكبها وخطر عام، لتكون أوثق اتصالاً برخاء المواطنين وصحتهم وسلامتهم في مجموعهم Public Welfare Offenses

وبإهمال من قارفها لنوع الرعاية التي تطلبها المشرع منه كلما باشر نشاطاً معيناً، وكذلك إذا أعرض عن القيام بعمل ألقاه عليه باعتباره واجباً، وبمراعاة أن ما توخاه المشرع من إنشائها، هو الحد من مخاطر بذواتها، بتقليل فرص وقوعها، وإنماء القدرة على السيطرة عليها، والتحوط لدرئها ".

وكذلك حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم (25) لسنة 16 قضائية دستورية بتاريخ 3/7/1995، وما جاء فيه من أنه:

" ولا يجوز بالتالي أن يكون إيقاع العقوبة المقررة لها، معلقاً على النوايا المقصودة من الفعل، ولا على تبصر النتيجة الضارة التي أحدثها foreseeability of the resulting harm،

ذلك أن الخوض في هذين الأمرين يعطل أغراض التجريم، ولأن المتهم - ولو لم يكن قد أراد الفعل - كان باستطاعته أن يتوقاه لو بذل جهداً معقولاً لا يزيد وفقاً للمقاييس الموضوعية عما يكون متوقعاً من الشخص المعتاد ordinary reasonable man .

وغدا منطقياً بالتالي، أن يتحمل الأضرار التي أنتجها، وأن يكون مسئولاً عنها حتى ما وقع منها بصفة عرضية أو مجاوزاً تقديره. ولازم ما تقدم؛ أن هذا النوع من الجرائم - وتلك هي خصائصها - يعد استثناء من الأصل في جرائم القانون العام التي لا تكتمل مقوماتها إلا باعتبار أن القصد الجنائي ركن فيها " ولو كان المشرع قد أغفل إيجابه "

ذلك أن هذه الجرائم لها من الخصائص " ما يُشين مرتكبها " ويتعين أن يكون قوامها " تدخلاً إيجابياً مقترناً بالإرادة الواعية التي تعطي العمل دلالته الإجرامية " وبها يكون العدوان في الأعم واقعاً على حقوق الأفراد أو حرياتهم أو ممتلكاتهم أو حيائهم أو آدابهم ".

فالأحكام السابقة لا تعنى إطلاقاً تبني المحكمة الدستورية العليا للمسئولية المادية في التجريم الجنائي، فالمحكمة استطردت في حكمها الأول قائلة أن:

" الفارق بين عمدية الجريمة، وما دونها دائر أصلاً - وبوجه عام - حول النتيجة الإجرامية التي أحدثتها، فكلما أرادها الجاني وقصد إليها، موجهاً جهده لتحقيقها، كانت الجريمة عمدية.

فإن لم يقصد إلى إحداثها، بأن كان لا يتوقعها أو ساء تقديره بشأنها، فلم يتحوط لدفعها ليحول دون بلوغها، فإن الجريمة تكون غير عمدية يتولى المشرع دون غيره بيان عناصر الخطأ التي تكونها ".

وهي الفقرة التي تلت الفقرة السالف ذكرها بالحكم الأول السابق الإشارة إليه في الطعن رقم (28) لسنة 17 قضائية دستورية بتاريخ 2/12/1995.

فالمحكمة الدستورية لم تعترف أبداً بـ المسئولية المادية، بل وعملت - خلال أحكامها السابقة - على إيضاح الركن المعنوي للجرائم غير العمدية، وفصَّلته تفصيلاً.

فبينت المحكمة المعيار العام الذي يتم على أساسه تحديد الإهمال المستوجب للعقاب في الجرائم غير العمدية وهو " ما يعد وفقاً للقانون الجنائي سلوكاً معقولاً للشخص المعتاد "، كما أوجبت على المشرع أن يحدد عنصر " الخطأ " في هذه الجرائم على نحو يقيني قاطع في دلالته.

وهو ما يعني أن المحكمة أغلقت أي منفذ يتم من خلاله معاقبة شخص ما على أساس المسئولية دون خطأ.

وقد حاول أنصار المذهب الموضوعي تبرير المسئولية الجنائية دون خطأ، وتغليب عنصر الضرر أو النتيجة على عنصر الإثم لقيام المسئولية الجنائية، ولاسيما في مجال الجرائم غير العمدية، استناداً إلى عدة دعائم متعددة الأوجه: بعضها ذو طبيعة تاريخية، وبعضها ذو طبيعة نظرية واجتماعية، وبعضها ذو طبيعة عملية، وبعضها ذو طبيعة سلوكية.

فمن ناحية - وهذه هي الدعامة التاريخية - يرجع الدور المتعاظم للنتيجة الإجرامية متمثلة في الضرر إلى الأصول التاريخية لقانون العقوبات في المجتمعات البدائية حيث كانت العقوبة تبرر بالنظر إلى الضرر الذي أصاب المجني عليه من جراء الجريمة، وكانت وظيفة قانون العقوبات آنئذ تنحصر في الانتقام " التعويضي ".

ومن ناحية ثانية، وهذه هي الدعامة النظرية والاجتماعية، ثمة عدة تبريرات على المستويين النظري والاجتماعي تفسر الاهتمام التشريعي بالضرر على حساب الإثم، منها أن وظيفة القانون الجنائي تكمن في حماية القيم الاجتماعية ذات الأهمية الخاصة،

وإذا كان من الطبيعي ألا يتدخل ذلك القانون إلا حيثما يقع مساس وإضرار فعلي بتلك القيم. وتأسيساً على ذلك، فلا غرابة أن يكون الضرر شرطاً للإدانة وأساساً لتحديد نطاقها. أما السلوك الفردي ومدى اتصافه بالخطأ فلا يعد سوى الوجه " الإجرامي " للمشكلة تعني به الجهات المكلفة بالوقاية من جرائم الإهمال.

ومن ناحية ثالثة - وهذه هي الدعامة العملية - يقال ان الاعتداد بالضرر - من حيث مبدأ تحققه وجسامته - في تنظيم العقاب على الجرائم غير العمدية تبرره اعتبارات عملية في إدارة العدالة الجنائية.

منها سهولة الإثبات أمام القضاء إذا كان محل الاثبات واقعة مادية محسوسة مثل الضرر، بينما يكون من غير الممكن عملاً قياس درجة الخطأ إلا من خلال درجة جسامة النتيجة التي تولدت عنه.

إلا أن كل هذه المبررات لا تستند إلى منطق قوي يجعلها جديرة بالتأييد، ولا شك أن إنكار الركن المعنوي للجريمة الجنائية يشكل ردة للوراء في مجال التجريم والعقاب على أية حال.

كما أن مشكلة الجرائم المادية وما تفرع عنها من مشكلات، ليست سوى نتيجة لسياسة جنائية تسرف في التجريم والعقاب، وتزج بالقانون الجنائي في ميادين تقتضي طبيعتها حلولاً غير جنائية، وتحمل آليات نظام إدارة العدالة الجنائية بأكثر من طاقته.

فالقاعدة التي لا يكف الجميع عن تكرارها وضرورة احترامها هي أنه لا مسئولية جنائية بدون خطأ أو بدون إثم: فإرادة النشاط المادي وحدها لا تكفي لتوافر الركن المعنوي للجريمة ولو ترتب على توجيهها ضرر فعلي،

بل يجب فوق ذلك أن يمكن وصفها بأنها إرادة آثمة أي وجهت توجيهاً خاطئاً، على نحو تصبح معه العلاقة بين الماديات وشخص المجرم محلاً للوم القانوني، وهي العلاقة التي تتمثل فيها سيطرة الجاني على الفعل وآثاره، وهـذا الـعنصر هو الـذي يـعبر أكـثر من غيره عن الأسـاس الأدبـي الـذي تـقوم عـليه فـكرة الـجريمة.

كما أن المسئولية الجنائية بما تكشف عنه من إذناب تعتبر معياراً لتحديد العقوبة المناسبة من أجل الجريمة.

المسئولية المادية
المسئولية المادية

وتؤكد المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية أنه:

" على الرغم من الانتقادات الشديدة الموجهة من كل ناحية ضد مبدأ ضرورة الركن المعنوي للجريمة، إلا أن تطلبه يعد مبدأ عاماً مستقراً في كافة الأنظمة القانونية المتحضرة، ويأتي بمثابة الانعكاس للاعتقاد في حرية الإرادة الإنسانية، وما يترتب على ذلك من قدرة الشخص المعتاد وواجبه في الاختيار بين طريقي الخير والشر.

فضرورة وجود علاقة بين الركن المعنوي والعقاب من أجل الجريمة هي ضرورة غريزية، تماماً كما هي غريزية الذريعة التي يلجأ إليها الطفل للتخلص من لوم موجه إليه - على اثر حماقة اقترفها - بقوله: (ولكنني لم أكن أقصد ذلك).

وأخيراً، فإن احترام الحقوق والحريات الفردية قاد الفكر الجنائي الحديث إلى القول بأنه في كل نظام قانوني متحضر ينبغي ألا يعاقب سوى من كان متاحاً أمامه احترام القانون ولكنه لم يفعل.

ففي هذا إعلاء من قيمة الإنسان وحرية إرادته وإرضاء لمشاعر من اختار طريق احترام القانون، وإبراز للدور التربوي لهذا الأخير.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -