ط
أخر الاخبار

الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية في قضاء المحاكم الدستورية العليا

الجرائم غير العمدية في قضاء المحكمة الدستورية العليا:


لم تحظ الجرائم غير العمدية - باعتبارها الصورة الاستثنائية في التجريم - بتطبيقات متعددة لدى القضاء الدستوري، فالتطبيق القضائي لتلك الجرائم في ساحة المحكمة الدستورية العليا كان بمناسبة الطعن على دستورية المادة (18) من القانون رقم (10) لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية.


الركن المعنوي للجريمة, الجرائم غير العمدية, الخطأ, الاهمال, شرح القانون الجنائي العام, أركان الجريمة, ما هي الجرائم غير العمدية؟
الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية في قضاء المحاكم الدستورية العليا


وبداية؛ استعرضت المحكمة الفارق بين الجرائم العمدية والغير عمدية بقولها أن:

" الأصل هو ألا يجرم الفعل مالم يكن إرادياً قائماً على الاختيار الحر (الفعل الماديالإرادي) وتلك الإرادة تمثل الركن المعنوي في الجريمة الجنائية.


إلا أنه بخلاف هذا الأصل فإن المشرع الجنائي يتجه أحياناً إلى تقرير جرائم عن أفعال لا يتصل بها قصد جنائي بعنصريه (العلم والإرادة)، ولا تدل بذاتها على ميل إلى الشر والعدوان،

وإنما ضبطها المشرع تحديداً لمجراها، وحداً من مخاطرها، وأخرجها بذلك عن مشروعيتها - وهي الأصل - وجعل عقوبتها متوازنة مع طبيعتها، فلا يكون أمرها غلواً من خلال تغليظها، بل هيناً في الأعم.


الجرائم غير العمدية هي استثناء من الأصل العام:


وقررت المحكمة الدستورية العليا أن تقرير الجرائم غير العمدية ظل مرتبطاً بطبيعتها ونوعيتها، وحصراً في الحدود الضيقة التي تقوم فيها علاقة مسئولية بين من يرتكبها، وخطر عام، لتكون أوثق اتصالاً برخاء المواطنين وصحتهم وسلامتهم في مجموعهم.


وبإهمال من قارفها لنوع الرعاية التي تطلبها المشرع منه كلما باشر نشاطاً معيناً، وكذلك إذا أعرض عن القيام بعمل ألقاه عليه باعتباره واجباً، وبمراعاة أن ما توخاه المشرع من إنشائها، هو الحد من مخاطر بذواتها، بتقليل فرص وقوعها، وإنماء القدرة على السيطرة عليها، والتحوط لدرئها.


وبما أنها استثناء يجب عدم التوسع فيه، فتجريم هذه الجرائم يتم بالموازنة بما كان ينبغي أن يكون سلوكاً لأوساط الناس، يقوم على واجبهم في التزام قدر معقول من التحوط لتمثل الجريمة غير العمدية انحرافاً ظاهراً عن ذلك المقياس، يتحدد بقدره، نوع الجزاء عنها ومقداره.


المسئولية الجنائية عن الجرائم غير العمدية لا تقوم في حق حسن النية:


وفى شأن المادة محل الطعن، قررت المحكمة أن:

" العقوبة التي فرضها النص المطعون فيه كجزاء على الأفعال التي أثمها، هي عقوبة المخالفة. وانحدارها على هذا النحو، يفيد تعلقها بأفعال لا يتعمدها مرتكبها، ولا تصل خطورتها إلى حد الإيغال في الجزاء عليها، ليكون قوامها خطأ اتخذ من مفهوم الجريمة غير العمدية إطاراً.


والجرائم غير العمدية لا تقوم إلا على الخطأ، وصوره على اختلافها يجمعها معيار عام يتمثل في انحرافها عما يعد - وفقاً للقانون الجنائي - سلوكاً معقولاً للشخص المعتاد، وأن هذه الصور على تعددها، تتباين فيما بينها سواء في نوع المخاطر التي تقارنها، أو درجتها.


ويتعين بالتالي أن يتدخل المشرع ليحدد ما يكون منها مؤثَّماً في تقديره، مع بيان عناصر الخطأ في كل منها على وجه الدقة واليقين التام، وتعييناً جلياً لما ينبغي على المخاطبين بالنصوص العقابية أن يأتوه أو يدعوه من أفعال،

إذ لا يجوز لمثل هذه النصوص، أن تُحمّل الناس ما لا يطيقون.


وركن الخطأ في الجرائم غير العمدية، ليس إلا فعلاً أو امتناعاً يمثل انحرافاً عما يُعد وفقاً للقانون الجنائي سلوكاً معقولاً للشخص المعتاد؛ وكان تحديد مضمون الأفعال أو مظاهر الامتناع التي تقوم عليها هذه الجرائم، من خلال بيان عناصر الخطأ، بما ينفي التجهيل بها.


وهي ضرورة يقتضيها اتصال هذا التجريم بالحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز النزول عنها أو الإخلال بها؛ وكان النص المطعون فيه قد قرر جزاءً جنائياً في شأن متهم حسن النية، وعن صور من الخطأ قَصُر عن تعيينها من خلال تحديد عناصرها؛

فإن هذا النص يكون قد أخل بالحرية الشخصية، وبضمانة الدفاع، وكذلك بالضوابط الجوهرية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة.


وبناء على ما تقدم: حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة (18) من القانون رقم (10) لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها وذلك فيما تضمنته من معاقبة من يخالف أحكام المادة الثانية من هذا القانون بعقوبة المخالفة إذا كان حسن النية.


ويتضح من الحكم السابق أن المحكمة الدستورية العليا رفضت إقامة الجريمة غير العمدية على غير عنصر الخطأ، وأوجبت على المشرع أن يحدد صور هذه الخطأ تحديداً دقيقاً للوقوف على ماهيته، ورفضت إثبات المسئولية الجنائية في حق متهم حسن النية، ولو كان ما نسب إليه مجرد مخالفة.


وقد أكدت المحكمة بذلك أن المسئولية الجنائية لا تقوم إلا بوجود درجة من الإثم أو الإذناب لدى الجاني تبرر عقابه جنائياً.


الجرائم غير العمدية في قضاء المجلس الدستوري الفرنسي:


ويؤكد المجلس الدستوري الفرنسي أنه على المشرع أن يُظهر عنصر الخطأ في الجرائم غير العمدية، وألا يكتفي بالجانب المادي في الجريمة، والضرر الذي وقع بسببه، وإلا أصبح التجريم يقرر مسئولية مادية.


وقد قرر المجلس الدستوري عدم دستورية النص الذي يقرر مسئولية الشخص عن حفظ علامات لها مضمون غير مشروع إذا لم يبذل الحيطة الملائمة، على أساس أن هذا النص لم يحدد عناصر الخطأ الذي من شأنه أن يؤدي إلى المسئولية.


الجرائم غير العمدية في قضاء المحكمة العليا الأمريكية:


ولأن الجرائم غير العمدية تقوم على عنصر الخطأ؛ فقد رفضت المحكمة العليا الأمريكية اعتبار جريمة القيادة تحت تأثير الكحول ضمن طائفة جرائم العنف التي تؤدي إلى ترحيل الأجانب، حتى لو ترتب عليها إصابات جسدية خطيرة.


وفي قضية United States v. Park حرصت المحكمة العليا الأمريكية على استظهار عنصر الخطأ في الجرائم غير العمدية، فأقرَّت دستورية إدانة رئيس إحدى شركات الغذاء والأدوية، تأسيساً على إثبات وجود أطعمة فاسدة في مخازن الشركة الموجودة في ولاية أخرى.


وذلك لأنه تلقى قبل سنوات من الواقعة إخطاراً تحذيرياً من إحدى منظمات الرقابة على سلامة الدواء والأغذية يتضمن عدداً من التعليمات واجبة النفاذ في شأن الحفاظ على سلامة المنتجات، لكنه أهمله ولم يكلف مرؤوسيه بتنفيذ التعليمات التي جاءت بهذا الإخطار.


وذلك على الرغم من أنه كان يملك السلطة والقدرة على فعل ذلك، فأثبتت المحكمة العليا في حقه عنصر الخطأ القائم على الإهمال، وبالتالي مسئوليته الجنائية.


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -