أحكام القضاء الدستوري في الركن المادي للجريمة (الفعل المادي الإيجابي)
أحكام القضاء الدستوري في الركن المادي للجريمة:
تكلمنا في مقال سابق عن الفعل المادي (الإيجابي
أو السلبي) الذي يتكون منه الركن المادي للجريمة الجنائية، ويتناول الموضوع التالي
أحكام القضاء الدستوري الصادرة في شأن الركن المادي للجريمة وعلى الأخص:
- أحكام المحكمة الدستورية العليا في مصر بشأن الركن المادي للجريمة.
- قرارات المجلس الدستوري الفرنسي بشأن الركن المادي للجريمة.
- أحكام المحكمة العليا الأمريكية بشأن الركن المادي للجريمة.
أحكام القضاء الدستوري في الركن المادي للجريمة (الفعل المادي الإيجابي) |
وقد عبرت المحكمة الدستورية العليا عن
الفعل المادي الذي ينهض عليه السلوك الإجرامي للجريمة الجنائية بقولها أن:
" لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام
لها بغيره، يتمثل في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مؤكداً بذلك أن ما
يركن إليه القانون الجنائي - في زواجره ونواهيه - هو مادية الفعل المؤاخذ على
ارتكابه؛ إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً.
ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا
القانون (القانون الجنائي)، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية ومظاهرها
الواقعية وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها
ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وتديرها محكمة
الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة التي تناسبها.
ولا يتصور بالتالي وفقاً لأحكام
الدستور، أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا أن يقوم الدليل على توافر علاقة
السببية بين مادية الفعل المؤثَّم والنتائج التي أحدثها، بعيداً عن حقيقة هذا
الفعل ومحتواه.
بما مؤداه أن كل مظاهر التعبير عن
الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة
في منطقة التجريم، كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاً عليه قانوناً، فإذا كان
الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجياً في صورة
مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة ".
الركن المادي للجريمة في قضاء المحكمة الدستورية العليا:
وتطبيقاً لذلك؛ قضت المحكمة بعدم
دستورية نص المادة (195) من قانون العقوبات، وعدم دستورية المواد (117،38،37) من
قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم (66) لسنة 1963.
ورفضت المحكمة الاعتراف بدستورية
النصوص السابقة لأن المشرع قرر من خلال تلك النصوص المسئولية عن جريمة جنائية دون
توافر ركن مادي قوامه سلوك إجرامي يمكن نسبته إلى المتهم.
وهو ما طبقته المحكمة العليا الأمريكية من حيث
رفض التجريم الجنائي لما هو دون الفعل المادي، كتجريم الحالة أو الوضع الخطر أو أي
حالة لا يتوافر فيها سلوك إجرامي يتحقق به الركن المادي للجريمة.
وفي المقابل؛ رفضت المحكمة الدستورية
العليا، النعي على دستورية البند (د) من نص المادة (33) من القانون رقم (182) لسنة
1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار فيها والمستبدلة بالقانون
رقم (122) لسنة 1989 والتي تنص على أن: " يعاقب بالإعدام وبغرامة لا تقل عن
مائة ألف جنيه ولا تجاوز خمسمائة ألف جنيه:
(أ): .....، (ب): ......، (ج):
........
(د) كل من قام، ولو في الخارج بتأليف
عصابة، أو إدارتها، أو التداخل في إدارتها، أو في تنظيمها، أو الانضمام إليها، أو
الاشتراك فيها، وكان من أغراضها الاتجار في الجواهر المخدرة أو تقديمها للتعاطي أو
ارتكاب أي من الجرائم المنصوص عليها في هذه المادة داخل البلاد. وتقضي المحكمة
فضلاً عن العقوبتين المقررتين للجرائم المنصوص عليها في هذه المادة بالتعويض
الجمركي المقرر قانوناً ".
وكان المدعي ينعى على النص المطعون فيه
عدم بيانه للركن المادي لجريمة تأليف عصابة بغرض جلب المواد المخدرة والاتجار
فيها، على نحو يبلغ حد التجهيل به، وغموض مدلوله، إذ عوَّل على مجرد الاتفاق على
تكوين التشكيل العصابي ذاته، أو إدارته، أو التداخل في إدارته، أو تنظيمه، أو
الانضمام إليه،
وسواء أتَمَّ ارتكاب هذه الأفعال أم لم
يُتِمْ، وجعل منه جريمة تامة، فأتاح إقامة الدليل على هذه الجريمة استناداً إلى
التحريات المجردة، وهو ما يخالف أحكام المواد (41، 66، 67) من دستور سنة 1971.
رأي المحكمة الدستورية العليا:
ورأت المحكمة الدستورية أن:
" الأصل في التجريم أن يعمد
المشرع إلى تحديد الأفعال التي تنطوي على مساس مباشر بالمصلحة المحمية، إلا أن
التطور الحديث في وسائل وأدوات ارتكاب الجريمة أوجب أن يواجه المشـــرع الجريمة
المنظمـة وما تمثله من مسـاس بتلك المصلحة،
ولاسيما في الجرائم الأشد خطورة على
المجتمع، والتي يتصدرها إنشاء كيان إجرامي يتخذ صورة التنظيم العصابي، الذي يكون
قوام الانضمام إليه هو الإرادة الحرة للأعضاء المكونين له، والذين تتوزع بينهم
الأدوار من تأليف أو إدارة أو تدخل في الإدارة أو التنظيم أو الانضمام إليه أو
الاشتراك،
وذلك لتحقيق الغاية التي يرنو إليها
التنظيم وهي الإتجار في الجواهر المخدرة أو تقديمها للتعاطي أو ارتكاب أي من
الجرائم المنصوص عليها في النص المطعون فيه داخل البلاد أو خارجها.
على نحو يجعل من فعل تأليف العصابة
الإجرامية سبباً ومناطاً لتأثيمه، فيكون في ترصده تجريماً ومجابهته عقاباً، سياسة
جنائية رشيدة.
ولئن كان مؤدى ما تقدم أن المصلحة
الاجتماعية تسوغ التجريم بمجرد تأليف التنظيم العصابي القائم على ارتكاب جرائم على
درجة من الخطورة تبرر ذلك، إلا أن هذا التجريم من زاوية دستورية لا يُسَوِّغ
للمشرع إذا ما اتخذه نموذجاً للعقاب أن ينفلت به من عقال الضوابط الدستورية
المُحْكَمَة.
والتي تضبط شرعية الجريمة والعقوبة
فيه؛ إذ يجب أن يستند هذا التجريم إلى ضرورة اجتماعية تسوغه، والتي تتمثل في شأن
النص المطعون عليه في قيام التنظيم العصابي بارتكاب جرائم تنال من مصلحة المجتمع
واستقراره الاجتماعي والاقتصادي.
ومن أجل ذلك؛ اعتد المشرع بتعدد أفراد
التنظيم العصابي وتنوع أدوارهم على نحو تتكامل به حلقات الجريمة وتحكم نسجها من
خلال أدوار متراكبة ومتميزة.
ذلك أنه ولئن صح أن المشرع يعتد في
غالب الأحوال بالتعدد كسبب في تشديد العقوبة تقديراً منه لما لهذا التعدد من أثر
في تقوية عزيمة الجناة، إلا أن التعدد في مجال التنظيم العصابي يبلغ غايته معتمداً
على تكامل الأدوار وتنوعها،
بما يكشف عن استقرار خطة المشروع
الإجرامي بين أفراد العصابة وتوزيع الأدوار بينهم على نحو احترافي متكرر. وفضلاً
عما تقدم؛ يجب أن يكون مناط التأثيم فعلاً ماديّاً ظاهراً، يمكن تعيينه على نحو
جلي واضح لا خفاء فيه ولا إبهام في تحديده.
وهو ما قرره المشرع بالنص المطعون فيه
بتأثيم إنشاء التنظيم أو إدارته أو تنظيمه أو الاشتراك فيه أو الانضمام إليه.
دستورية التنظيم العصابي (الجماعة الإجرامية) كما حددها المشرع:
وحيث إن النظام القانوني المؤثم
للتنظيم العصابي، إذا استجمع عناصره كاملة، بأن كان قد أُعد لارتكاب طائفة من
الجرائم بالغة الخطورة، وكان هذا التنظيم على درجة من الإحكام تنذر بتهديد جَدّي
للمصلحة محل الحماية الجنائية،
وقد عين المشرع فيه أركان التأثيم
واضحة جليّة لا لبس فيها ولا غموض، بما يتيح لمن تواجهه سلطة الاتهام بهذه الجريمة
أن يبسط حججه في الرد عليها إيراداً ونفياً، كان النص الجنائي المؤثم لذلك التنظيم
موافقاً أحكام الدستور، ومستجمعاً لشرائط دستوريته.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان
التجريم في النص المطعون فيه جاء استجابة لضرورة اجتماعية حالة، تهدف إلى مكافحة
جرائم تشكيل عصابات تقوم على جلب المخدرات، أو إنتاجها بكافة مراحله، أو الاتجار
فيها سواء ببيعها أو بتقديمها للجمهور لتعاطيها،
وهي جرائم تنال من سلامة المجتمع
واستقراره وأمنه الاجتماعي والاقتصادي، وإذ حدد النص المطعون فيه الركن المادي
للجريمة - كما سلف البيان - في جملة أفعال محددة حصراً، ولا يشوبها الغموض، ولا
يكتنفها الإبهام.
ومن ثم فإن النص المطعون فيه يكون قد
عيَّن الركن المادي لهذه الجريمة تعييناً نافياً للجهالة، على نحو يسلم به من قالة
الإبهام أو التجهيل، كما استوجب توافر قصداً جنائيّاً خاصاً لدى مرتكب الجريمة
سالفة البيان، أيَّا كان الغرض من ارتكابها،
فإن النص المطعون فيه يكون قد استجمع
عناصر التأثيم التي تستوجبها أحكام الدستور.
ولا ينال من ذلك القول بأن النص
المطعون فيه أتاح إقامة الدليل على هذه الجريمة استناداً إلى التحريات، إذ يظل
التشكيل العصابي رهناً بضمائر أعضائه طالما لم يرتكبوا الجريمة التي تغياها
التنظيم العصابي،
فإن ذلك القول مردود بأن المشرع لم
يستثن النيابة العامة من واجب إقامة الدليل على قيام التنظيم العصابي بأركانه
متمثلة في توزيع الأدوار بين أعضائه، لغاية محددة هي ارتكاب إحدى الجرائم المار
ذكرها،
كما أوجب أن تثبت سلطة الاتهام دور كل
متهم على حده في التنظيم العصابي، سواء أكان التكوين أو التنظيم أو الإدارة أو
الانضمام أو الاشتراك فيه، ولم يحل بين المتهم ونفي ما قام ضده من دليل بكافة طرق
الإثبات.
وحيث إنه متى كان ذلك، فإن النص المطعون فيه لا
يكون قد خالف نصوص المواد (54، 95، 96) من الدستور، ولا أي حكم آخر منه، فمن ثم
يتعين القضاء برفض الدعوى ".
والواقع أننا نؤيد المحكمة الدستورية
العليا فيما انتهت إليه خلال قضائها السابق، وما كشفت عنه حيثيات الحكم من موازنة
دقيقة تجريها المحكمة بين ضوابط الشرعية الدستورية للتجريم الجنائي متمثلة في
ضرورة تحديد الركن المادي للجريمة، وبين مصلحة المجتمع في ضرورة مواجهة أنماط
خطيرة من الجرائم بنصوص تجريم أكثر فاعلية.
الركن المادي للجريمة
في قضاء المجلس الدستوري الفرنسي:
وقد قضى المجلس الدستوري في فرنسا في
18 يناير سنة 1958 اعتماداً على إعلان حقوق الانسان والمواطن الصادر سنة 1789
والمادة (34) من الدستور الفرنسي، بعدم دستورية المادة 207/1 من النص المعروض عليه.
وذلك على أساس أنه لم يحدد عناصر
الجريمة التي يهدف إلى المعاقبة عليها. وكان القضاء الفرنسي قد لاحظ منذ بداية هذا
القرن أن المشرع حين وضع بجانب جريمة خيانة الأمانة جريمة اختلاس خاصة تحت اسم
"malversation" لم يحدد عناصر هذه
الجريمة وتركها لتقدير القضاة.
الركن المادي للجريمة في قضاء المحكمة العليا الأمريكية:
ولم يخرج قضاء المحكمة العليا
الأمريكية عن ذات الاتجاه، فقضت بأن نص التجريم إن كان قاصراً عن تحديد الأفعال
التي يعاقب عليها، فإنه يكون مخالفاً لشرط الوسائل القانونية السليمة.
ومن هذا المنطلق؛ قررت المحكمة العليا
الأمريكية عدم دستورية كافة نصوص التجريم الجنائي التي لا تحدد بوضوح الركن المادي
للجرائم التي تعاقب عليها. ومن ذلك:
مجموعة الأحكام التي أصدرتها المحكمة
العليا بعدم دستورية كافة قوانين التشرد والتسكع التي أصدرتها الولايات بهدف
السيطرة على الشوارع العامة، لأن تجريم التسكع والسلوك غير المنضبط لا يتفق مع
الدستور، حيث لا توجد جريمة، ولا يوجد دليل على أي شيء.
Post a Comment