ط
أخر الاخبار

خصوصية نصوص التجريم والعقاب لدى القضاء الدستوري

 طبيعة القانون الجنائي:


القانون الجنائي قانون خطير بالنظر إلى طبيعة الموضوعات التي يعالجها وهي " الجرائم والجزاءات الجنائية "، فلا شك، أن أعظم مراتب الخروج على النظام العام وقواعده في الضبط الاجتماعي إنما تتحقق بوقوع " الجريمة الجنائية ".


الشرعية الدستورية لقانون العقوبات, الشرعية الدستورية للقانون الجنائي, الشرعية الدستورية لنصوص التجريم والعقاب
خصوصية نصوص التجريم والعقاب لدى القضاء الدستوري


فالجريمة هي أكبر صور العصيان على النظام الـذي يكـفله الـقانون، كـما أنها أبـرز مظاهر الافتـئات على قـواعد الانضباط في الـمجتمع.


وبالمقابل؛ فإن الجزاء الجنائي يعد أخطر ما يمكن أن تتخذه الدولة من إجراء في مواجهة المخالف، فالعقوبة خطيرة، وهي بغيضة إن كانت وسيلة استبداد، أما إذا وقعت باسم القانون وطبقاً لنصوصه فهي عادلة ومشروعة.


طبيعة نصوص التجريم والعقاب:


وبالإضافة إلى خطورة التجريم والعقاب كأدوات للقانون الجنائي، فإن دور القانون الجنائي يزداد تعقيداً بمرور الوقت نتيجة التطورات الاجتماعية المتلاحقة والمستمرة في شتى المجالات.


بحيث يتحمل قانون العقوبات من خلال التجريم والعقاب مسئولية حماية حقوق المجني عليه والمصلحة العامة بحكم الضرورة الاجتماعية التي تتطلب هذه الحماية، ويفرض الجزاء الجنائي المناسب الذي يتسم بالمعقولية، ولا ينافي الحدود المنطقية التي ينبغي أن تكون إطاراً له.


وذلك من خلال معايير ينص عليها الدستور تتمثل في ضمانات يتعين على المشرع العقابي الالتزام بها. وذلك كله في إطار السياسة الجنائية التي يتبناها المشرع والتي يجب أن تقوم على عناصر متجانسة وصولاً للأهداف التي تبتغي تحقيقها.


تفعيل مبادئ الشرعية الدستورية للقانون الجنائي:


ومن ثم؛ يتعين على المشرع دوماً إجراء موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى.


ولا شك أن المحكمة الدستورية العليا يقع عليها عبء مراقبة مشروعية الضرورة والتناسب في التضحيات التي تتحملها القيم التي يقوم عليها النظام الدستوري.

فكما قيل - وبحق - أن أهم مظهر للعلاقة بين الدستور والقانون الجنائي يتضح في رقابة القضاء الدستوري على تطبيق وتفسير النصوص الجنائية.


ونظراً لأن نصوص الدستور التي تتصل بأصول التجريم والعقاب تتسم في حقيقتها بقلتها وعموميتها، وبتعدد أوجه تفسيرها، فإن دور المحكمة الدستورية العليا في وضع ضوابط للتجريم الجنائي والعقاب يتسم بأنه دور خلاق ومبدع، تتجاوز به المحكمة الإطار الضيق لنصوص الدستور، لتستلهم حكمة هذه النصوص.

لاسيما؛ وأن الحريات العامة تمثل أموراً مجردة أقرب إلى القيم منها إلى القواعد المنضبطة، ولو تضمنتها نصوص الدساتير، ولذلك فإنه يستحيل وضع صيغ جامدة ومحددة لها.


ضوابط التجريم والعقاب في قضاء المحكمة الدستورية العليا:


ولذلك؛ فقد عنيت المحكمة الدستورية العليا أثناء الرقابة على التزام الشرعية الدستورية التي تحكم القانون الجنائي بأن تستجلي تميز هذا القانون عن غيره من القوانين، فقررت أن:

" دستورية النصوص الجنائية تحكمها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها، ومعايير حادة تلتئم مع طبيعتها ولا تزاحمها في تطبيقها ما سواها من القواعد القانونية ".


كما حرصت المحكمة الدستورية العليا على تأكيد عدد من المبادئ الأساسية التي تحكم التجريم الجنائي والعقاب، ففي ضرورة التزام المشرع الجنائي بالضمانات الدستورية للحقوق والحريات أثناء وضع نصوص التجريم والعقاب، قررت المحكمة الدستورية أن:

" الدستور - في سبيل حماية الحريات العامة - حرص على كفالة الحرية الشخصية لاتصالها بكيان الفرد منذ وجوده، وإحاطتها بضمانات عديدة لحمايتها، وما يتفرع عنها من حريات وحرمات، ورفعها إلى مرتبة القواعد الدستورية، فلا يجوز للمشرع العادي أن يخالف تلك القواعد، وما تضمنته من كفالة لصون تلك الحريات، وإلا جاء عمله مخالفاً للشرعية الدستورية ".


وفي شأن السلطة التقديرية للمشرع في اختيار الأفعال المجرَّمة تقول المحكمة أنه:

" يجب أن يقتصر العقاب الجنائي على أوجه السلوك التي تضر بمصلحة اجتماعية ذات شأن لا يجوز التسامح مع من يعتدي عليها، فلا يجوز للمشرع أن يجرم غير الأفعال التي تربطها علاقة منطقية بتلك الأضرار الاجتماعية التي يقوم الدليل جلياً على تشخيصها وتوكيدها ".


وفي مبدأحظر الأثر الرجعي للنصوص الجنائية، ورجعية القانون الأصلح للمتهم تقول المحكمة:

" إن كان مبدأ عدم رجعية القوانين يقيد السلطة التشريعية إعمالاً لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وصوناً للحرية الشخصية بما يرد كل عدوان عليها،

إلا أن هذا المبدأ لا يعمل منفرداً، بل تكمله وتقوم إلى جانبه، قاعدة أخرى هي رجعية القانون الأصلح للمتهم، وهي قاعدة مؤداها إفادته من النصوص التي تمحو عن الفعل صفته الإجرامية، أو تنزل بالعقوبة المفروضة جزاءً على ارتكابه إلى ما دونها ".


كما أكدت المحكمة الدستورية على ضرورة وضوح وتـحديد النصوص الجنائيـة إلى أقصى درجة حين قررت أن:

" القيود التي تفرضها القوانين الجزائية على الحرية الشخصية تقتضي أن تصاغ أحكامها بما يقطع كل جدل في شأن حقيقة محتواها ليبلغ اليقين بها حداً يعصمها من الجدل، وبما يحول بين رجال السلطة العامة وتطبيقها بصورة انتقائية، وفق معايير شخصية، تخالطها الأهواء، وتنال من الأبرياء لافتقارها إلى الأسس الموضوعية اللازمة لضبطها ".


وفي معقولية العقوبة الجنائية ووجوب تناسبها مع الجريمة المقررة من أجلها، أكدت المحكمة الدستورية أن:

" الأصل في العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون التدخل فيها إلا بقدر، نأياً بها عن أن تكون إيلاماً غير مبرر، يؤكد قسوتها في غير ضرورة، كما أن الجزاء الجنائي يكون مخالفاً للدستور إذا اختل التعادل بصورة ظاهرة بين مداه وطبيعة الجريمة التي تعلق بها ".


كما أكدت المحكمة الدستورية على مبدأ عدم جواز تعدد العقوبات على الفعل الواحد رغم عدم النص عليه صراحة في الدستور، فقررت أن: " الأصل في صور الجزاء ألا تتزاحم جميعها على محل واحد بما يخرجها عن موازين الاعتدال ".


وفي التأكيد على مبدأ شخصية المسئولية الجنائية وشخصية العقوبة، تقول المحكمة العليا أن:

" الأصل في الجريمة أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين كمسئول عنها، بما مؤداه أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤاخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها مرتبطان بمن يعد قانوناً مسئولاً عن ارتكابها، ومن ثم تفترض شخصية العقوبة شخصية المسئولية الجنائية، بما يؤكد تلازمهما ".


وذلك، فضلاً عن تدعيم المحكمة الدستورية العليا للعديد من مبادئ الشرعية الدستورية لقانون العقوبات، كمبدأ حظر القياس في مواد التجريم والعقاب، ورفض المحكمة لمذهب المـشرع الجنـائي في التـجريم عن طـريق إحـلال قرائن قـانونيـة مـحل توافر أحد أركان الجريمة الجنائية.

 

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -