أخر الاخبار

القانون الجنائي الدستوري : الشرعية الدستورية لقانون العقوبات

 الموازنة بين السلطة والحرية في ضوء الشرعية الدستورية لقانون العقوبات:

 

إن مواجهة التعارض الدائم بين سلطة الدولة وحرية الفرد هو جوهر الوظيفة المعقدة للعدالة بوجه عام، والعدالة الجنائية Criminal justice بوجه خاص. فللدولة الحق في الحفاظ على بقائها واستقرارها، وحماية النظام العام السائد فيها.

 

وللفرد الحق في التمتع بحقوقه وحرياته المتنوعة، وممارسة جميع أوجه النشاط المشروعة داخل مجتمعه. ولا شـك أن المجال الأخطر في دائرة التـعارض بين السلطة والحرية هو مجال القانون الجنائي criminal law.

 

لأن التجريم الجنائي والعقاب هو الأداة الأكثر خطورة في يد السلطة العامة لضبط سلوك الأفراد، وفي الوقت ذاته، الأداة الأكثر فاعلية للحفاظ على النظام العام وإقامة العدالة.


الدستور والقانون الجنائي
القانون الجنائي الدستوري: الشرعية الدستورية لقانون العقوبات


الدستور والقانون الجنائي:

 

ولذلك؛ فإن اللجوء إلى استخدام التجريم والعقاب Criminalization and punishment يجب ألا يخرج في كل الأحوال عن إطار الشرعية الدستورية على النحو الذي يحدده الدستور، من خلال الحماية المتوازنة لحق الفرد وحق الجماعة.

 

مما أضفى نوعاً من الخصوصية على العلاقة بين الدستور والقانون الجنائي، يمكن بيان معالمها من خلال النقاط التالية:

 

أولاً: أصبحت وظـيفة القـانون الجـنائي مـتعددة الأبـعاد داخل النظـام القـانوني العـام.

 

فلم يعد دور القانون الجنائي مقتصراً على مواجهة الجرائم الجنائية وتقرير عقوباتها، أو إيجاد الحماية الفـعَّالة للقواعد القانونية غير الجنائية بطبيعتها عن طريق الاستعانة بالجزاء الجنائي فحسب.

 

وإنما يؤدي القانون الجنائي دوراً مزدوجاً في النظـام القـانوني الـعام من حيث حماية أهداف ومبادئ وأحكام الدستور بما يحقق المصلحة العامة من جهة، وحماية الحقوق والحريات الفردية من الجهة المقابلة،

بالصورة التي يتحقق معها التوازن بين جميع مبادئ وأحـكام الدستور باعتبارها نـسيجاً مـترابطاً.

 

مبادئ الشرعية الدستورية لقانون العقوبات:

 

ثانياً: يحرص الدستور - باعتباره القانون الأعلى في الدولة - على تحديد المجال الشرعي للقانون الجنائي، بحيث يمنحه الشرعية الدستورية التي يعمل من خلالها، بداية من كيفية وضع نصوص التجريم والعقاب وحتى نفاذها في جانب الأفراد.

فيما يمكن أن يطلق عليه " المبادئ الدستورية للتجريم والعقاب ".

 

وداخل هذا الإطار العام؛ يؤثر الدستور Constitution في مجال عمل القانون الجنائي من خلال الاعتراف بمجموعة من الحقوق والحريات التي يقرر الدستور منحها للأفراد في مواجهة السلطة العامة Public authority، ويفسح لها المجال ضد نطاق عمل القانون الجنائي.

فيما يعرف بـ " الضمانات الدستورية للحقوق والحريات ".

 

صناعة التشريع الجنائي بالغة الدقة والتعقيد:

 

ثالثاً: أصبحت مهمة المشرع الجنائي بشأن وضع نصوص التجريم والعقاب بالغة الدقة ولا تخلو من التعقيد. فهو مطالب مبدئياً عند معالجة مشكلة ما من خلال التجريم والعقاب، أن يبتعد عن دائرة الحقوق والحريات التي يمنحها الدستور للأفراد.

 

وهو مطالب بعد ذلك أن يلتزم بـ الضوابط الدستورية للتجريم والعقاب على النحو الذي حدده الدستور، وهي المبادئ الرئيسية للتجريم الجنائي التي يرتقي بها الدستور إلى مصاف المبادئ الدستورية Constitutional principles.

 

وذلك عن طريق النص عليها صراحة في صلب أحكامه. وبالموازنة والتوفيق بين جميع الاعتبارات السابقة، يجب على المشرع الجنائي أن يتبنى سياسة جنائية فعَّالة مبناها العدالة، حدودها مبادئ الدستور، هدفها صالح الفرد والجماعة.

 

رابعاً: يحرص الدستور دائماً - حفاظاً على مبـادئه وأحكامه من التهميش والصورية - على إيجاد نوع من الحماية العملية لأحكامه، فهو لا يترك القوة الإلزامية لمبادئه وأحكامه لمحض إرادة المشرع، فهي ليست مبادئ إرشادية لهذا الأخير، وإنما هي مبادئ إلزامية واجبة النفاذ.

 

وتتمثل هذه الحماية في الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح، للوقوف على مدى احترام المشرع لمبادئ وأحكام الدستور.

 

وقد عهد الدستور المصري إلى المحكمة الدستورية العليا بتولي هذه المهمة، بحيث يكون لها الحق في إعدام النص القانوني إذا خالف الدستور، وإعدام ذلك النص منذ ميلاده بحكم يرتد أثره إلى الماضي إن كان النص جنائياً.

 

المحكمة الدستورية العليا, المجلس الدستوري, المحكمة العليا
القضاء الدستوري


دور القضاء الدستوري في حماية الشرعية الدستورية لقانون العقوبات:

 

ولذلك: أصبح القضاء الدستوري يؤدي الدور الأساسي في تحديد مضمون الشرعية الدستورية لقانون العقوبات، وذلك بالنظر إلى عمومية نصوص الدستور المتعلقة بالتجريم والعقاب، وعددها المحدود.

 

فللقضاء الدستوري أن يوسع من مرجعيته في الرقابة على دستورية القوانين أو أن يحصرها في الإطار الضيق لظاهر النصوص الدستورية، وله كذلك الاعتراف بمبادئ العدالة الجنائية غير المنصوص عليها في الدستور أو إنكارها.

ومن هنا؛ فإن القضاء الدستوري يمنح المضمون الفعَّال أو الأجوف لنصوص الدستور.

 

وقد صدر الدستور المصري الجديد في يناير من عام 2014، حاملاً ضمانات جديدة للحقوق والحريات، وأبعاداً أعمق للعلاقة بين الدستور وقانون العقوبات، سواء في مجال التجريم أو الجزاء الجنائي.

 

إلا أن استقراء النصوص الجنائية في النظام القانوني المصري، يظهر وجود نوع من الخلل في مسار الشرعية الدستورية لقانون العقوبات،

يتمثل في وجود مجموعة - ليست بالقليلة - من النصوص الجنائية نافذة المفعول، بالرغم من مخالفة أحكامها الصريحة أو الضمنية لأحكام الدستور Unconstitutional laws.

 

ولن يخرج سبب هذا الخلل عن أحد مصدرين، أو عنهما مجتمعين:

 

المصدر الأول: هو المشرع الجنائي Criminal legislator باعتباره المختص بوضع نصوص التجريم والعقاب مستوفية لضوابط شرعيتها الدستورية.

أما المصدر الثاني: فهو القضاء الدستوري Constitutional judiciary باعتباره الرقيب الأوحد على مدى احترام المشرع الجنائي لمبادئ وأحكام الدستور.

 

وبشأن المشرع الجنائي: فإن التشريعات الجنائية - ولاسيما الخاصة منها حديثة الإصدار - ظهر بها نوع من الابتعاد والشرود عن مبادئ الدستور بشأن التجريم والعقاب، يتدرج في مداه بين التعارض المباشر والصريح مع هذه المبادئ الدستورية، والإنكار الضمني لها.

 

فضلاً عن وجود عدد كبير من النصوص الجنائية داخل مجال السريان، على الرغم من القضاء بعدم دستورية نصوص جنائية أخرى متطابقة معها شكلاً ومضموناً.

 

وقد تأخذ المشكلة صورة أخرى تتمثل في قيام المشرع الجنائي بإعادة إنتاج ذات النصوص المقضي بعدم دستوريتها بنفس العوار الدستوري.

 

مما يطرح التساؤل عن شرعية هذه التشريعات؟ ومدى نجاح المشرع الجنائي في تحقيق التوازن المطلوب بين المصلحة العامة من جهة والحقوق والحريات Rights and freedoms من الجهة المقابلة، وفقاً لأحكام الدستور.

 

التجريم الدستوري:


ومن ناحية أخرى؛ وجَّه الدستور المصري الجديد المشرع الجنائي إلى تجريم عدد من الأفعال باعتبارها جرائم جنائية، ويفصح ذلك عن رغبة المشرع الدستوري في مواجهة هذه الأفعال بالجزاء الجنائي، وذلك لخطورتها البالغة على الصالح العام وحقوق الأفراد.

 

مما يثير التساؤل عن مدى سرعة وكفاءة استجابة المشرع لهذا التوجيه الدستوري، باعتباره فرعاً من فروع الشرعية الدستورية لقانون العقوبات، ويثير التساؤل أيضاً عن إمكانية وجود حل قانوني لمواجهة حالة الامتناع التشريعي من جانب المشرع الجنائي عن تنفيذ ما يوجبه الدستور من أحكام تتعلق بالتجريم والعقاب.

 

أما بشأن القضاء الدستوري واختصاصه المنفرد بالرقابة على الشرعية الدستورية للقانون الجنائي، فإن وجود العديد من نصوص التجريم والعقاب ظاهرة المخالفة للدستور - سواء لوضوح هذه المخالفة من ظاهر نصوصها أو حقـيقة مضمونها،

أو بسبب القضاء بعدم دستورية نصوص جنـائية أخرى متطـابقة معها شكلاً ومـضموناً - يثير التساؤل عن مدى فاعلية الرقابة الدستورية على القوانين الجنائية وفقاً للأسس الموضوعية والقواعد الإجرائية التي يتبناها القضاء الدستوري المصري، ويمارس وظيفته من خلالها.

 

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -