ط
أخر الاخبار

الدستور والقانون الجنائي : العلاقة بين الدستور والنظرية العامة للجريمة

المبادئ الدستورية للتجريم الجنائي:


في رحاب القانون الجنائي الدستوري؛ تتعدد أوجه العلاقة بين الدستور والنظرية العامة للجريمة، ويمكن التعرض لأسس تلك العلاقة من خلال مجموعة المبادئ التي أعلنها الدستور في هذا الشأن، والتي تتمثل في المبادئ الآتية:


  1. مبدأ التزام أحكام الشريعة الإسلامية.
  2. ومبدأ المساواة.
  3. مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.
  4. ومبدأ عدم رجعية نصوص التجريم والعقاب.
  5. شروط إجراء التجارب الطبية والعلمية.
  6. الحصانة الموضوعية لأعضاء مجلس النواب.


القانون الجنائي الدستوري, المبادئ الدستورية للتجريم والعقاب
الدستور والقانون الجنائي : العلاقة بين الدستور والنظرية العامة للجريمة


وذلك على التفصيل التالي:


مبدأ التزام أحكام الشريعة الإسلامية


تنص المادة الثانية من دستور جمهورية مصر العربية لعام 2014 على أن:

" الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ".

كما يقضي نص المادة السابعة من قانون العقوبات المصري رقم (58) لسنة 1937 بأنه:     

" لا تخل أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء ". كما تقضي المادة (60) من قانون العقوبات بأنه: " لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة ".

وقد ساهم الفقه والقضاء في تحديد مضمون المبدأ الدستوري وبيان حدود تطبيقه بما يحقق مقاصد الدستور.

فبداية، ومن حيث المخاطب بأحكام المادة الثانية من الدستور، فإن فقه القانون الجنائي قد استقر على أن الخطاب الدستوري هنا موجه إلى المشرع دون غيره.

إذ لا يسوغ للقاضي الجنائي أن يقرر - وفقاً للمادة الثانية من الدستور - جريمة أو عقوبة لم يرد النص عليها بقانون العقوبات بدعوى كونها من مبادئ الشريعة الإسلامية، وإلا أهدر مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.

فتطبيق المبدأ المذكور يقتضي تدخل المشرع بنصوص تشريعية محددة ومنضبطة تنقل المبدأ إلى مجال التنفيذ، وهو ما استقر عليه القضاء الدستوري وقضاء محكمة النقض.


أما من حيث المقصود بعبارة " مبادئ الشريعة الإسلامية ":

فقد أجمع الرأي على أن النص الدستوري يستهدف مجموعة أحكام الشريعة قطعية الثبوت والدلالة، أي التي لا يوجد خلاف بشأنها بين الفقهاء ويمتنع فيها الاجتهاد، وتشكل المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية الغراء وأصولها الثابتة.

فتلك الأحكام هي التي يثبت في شأنها خصائصالقواعد القانونية من حيث العمومية والتجريد والقابلية للتقنين. وهو ما أكدته أحكام القضاء الدستوري، والقضاء الجنائي.

وذلك خلافاً للأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو دلالتها، والتي يفتح فيها باب الاجتهاد، والقابلة للتغير بحسب ظروف الزمان والمكان تحت مظلة الأحكام القطعية، ويمكن الرجوع إليها للاسترشاد والاستئناس وليس للتقييد والإلزام.


حدود قاعدة أن " مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ":


أما عن مـضمون المبدأ الدستوري، فـهو يعـني بإيجـاز: " وجـوب التزام السلطة التشريعية بألا تصدر عـنها نصوص قانونية مناقضة للمبادئ الأساسية والأحكام القطعية للشريعة الإسلامية ".

وبشأن قانون العقوبات؛ ووفقاً لما تقتضيه قواعده من وضوح وتحديد، فإنه يجب النظر إلى المبدأ المذكور من خلال تساؤلين رئيسيين:

الأول: هو مدى صلاحية مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر مباشر للتجريم والعقاب، أي هل يجوز الاستناد إليها لتجريم فعل معين (كتجريم الردة وشرب الخمر) أو إنزال عقوبة ما (كقطع يد السارق أو جلد الزاني) دونما ورود ذلك التجريم أو تلك العقوبة في مدونة قانون العقوبات؟

والإجابة لا تكون إلا بالنفي. التزاماً بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، فالقاضي الجنائي لا يملك حيال الدعوى المعروضة عليه سوى تطبيق نصوص التجريم وإنزال العقوبات الواردة في نصوص قانون العقوبات.

فنص الدستور يرسم " سياسة تشريعية "، ولا يضع حكماً أو يقرر قاعدة. وخطابه موجَّه إلى الشارع لكي يعدل القانون، فيستمد من الشريعة الإسلامية القواعد التي يتضمنها؛ وليس موجَّهاً إلى القاضي الذي يتعين عليه أن يطبق أحكام القانون الوضعي، وينتظر تعديلها وفقاً للشريعة الإسلامية، كي يطبقها بناء على ذلك.


أما التساؤل الثاني: فهو مدى صلاحية مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر للإباحة في ظل تطبيق أحكام القانون الوضعي؟

ونظراً لأنه لا يشترط أن تستند الإباحة إلى نص في القانون، ويمكن أن تكون غير النصوص التشريعية مصدراً لها، فإن مبادئ الشريعة الإسلامية تصلح لأن تكون مصدراً للإباحة استناداً إلى نصوص المواد (60،7) من قانون العقوبات.

فضلاً عن عدم تعارض ذلك مع مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي يفرض وجود نص قانوني لإمكان تجريم فعل معين، دون اشتراط وجود نص قانوني يقرر الإباحة باعتبارها الأصل العام.

لذا، فإن مبادئ الشريعة الإسلامية تصلح لأن تكون مصدراً للإباحة وفقاً لأحكام الدستور والقانون.


وتطبيقاً لنص المادة الثانية من الدستور، قضت المحكمة العليا المصرية بإقرار دستورية نص المادة (347) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية والإجراءات المتعلقة بها، الصادر بها المرسوم بقانون رقم (78) لسنة 1931.

والتي قررت عقوبة الحبس الذي لا تزيد مدته عن ثلاثين يوماً، حال امتناع المحكوم عليه عن تنفيذ الحكم الصادر في النفقات أو أجرة الحضانة أو الرضاعة أو المسكن، متى ثبتت قدرته على التنفيذ، وأصَرَّ على عدم الامتثال أمام المحكمة المختصة.

ورأت المحكمة العليا أن:

" الحكم بحبس المحكوم عليه بالنفقة وما في حكمها ليس عقوبة جنائية بمفهومها الفني الدقيق، بل هو وسيلة إرغام وإكراه للمحكوم عليه كي يؤدي ما عليه متى كان قادراً على ذلك وامتنع عنتاً وظلماً " وقررت بناء على ذلك أن: " المشرع قنَّن في النص المطعون عليه حكماً من الأحكام المتفق عليها في الشريعة الإسلامية .....، وجاء متفقاً مع الدستور".


مبدأ المساواة


تقضي المادة (53) من الدستور بأن:

" المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر. ........ ".

كما تقضي المادة الأولى من قانون العقوبات بأن:

" تسري أحكام هذا القانون على كل من يرتكب في القطر المصري جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيه ".

 

ولا جدال في أن صياغة المادة المذكورة من خلال عبارة " كل من يرتكب " تفيد عمومية تطبيق أحكام قانون العقوبات، بما ينفي أي شبهة تفرقة أو تمييز بين المخاطبين بأحكامه.


ويعد مبدأ المساواة من أهم وأقوى مبادئ الدستور على الإطلاق، إذ لا تقتصر أهميته على مجرد كونه مبدأً دستورياً واجب النفاذ ظاهرياً فحسب، وإنما هو أحد دعائم دولة القانون.

على أساس أن سيادة القانون لا تعلو مالم يطبق على قدم المساواة. وبناء على ذلك، يتمتع مبدأ المساواة بالقيمة الدستورية سواء بناء على نص صريح في الدستور، أو باستخلاصه ضمناً من مواده التي تعتنق مبدأ سيادة القانون.


كذلك، يعد مبدأ المساواة من المبادئ العامة للقانون، إذ لا يحتاج إقراره إلى نص صريح في قانون ما.

لذا، فإن نطاق تطبيقه لا يقتصر على الحقوق التي كفلها الدستور، وإنما يمتد كذلك إلى ما يكون منها قد تقرر بقانون - أو بآداة تشريعية أدنى - في حدود السلطة التقديرية التي يملكها المشرع.


مضمون مبدأ المساواة أمام القانون:


ويمكن القول إجمالاً، أن مبدأ المساواة مؤدّاه أنه:

" لا يجوز أن تخل السلطتان التشريعية أو التنفيذية في مباشرتهما لاختصاصاتهما التي نص عليها الدستور، بالحماية القانونية المتكافئة للحقوق جميعها، سواء في ذلك، تلك التي نص عليها الدستور أو التي حددها القانون ".

ويتجلى مبدأ المساواة في التشريعات بشكل عام من خلال صفتي العمومية والتجريد، أي صدور القاعدة القانونية عامة ومجردة. فالقاعدة القانونية - من حيث الأصل - قاعدة عامة تسري على الكافة دون تمييز.

كما أنها قاعدة مجردة، ويقصد بكونها مجردة ألا تكون موجهة إلى شخص بذاته ولا إلى واقعة بعينها، وإنما هي تخاطب الأشخاص بصفاتهم، وتتناول الوقائع بشروطها.

وصدور القاعدة القانونية مجردة على هذا النحو، يؤدي بالضرورة إلى عمومية تطبيقها، وهو ما يعني أن التجريد والعمومية صفتان متلازمتان.

مبدأ المساواة في القانون الجنائي:

ولا يختلف الأمر بالنسبة لقانون العقوبات الذي هو أولى التشريعات بصفتي العمومية والتجريد فيما يتضمنه من قواعد للتجريم الجنائي والعقاب، أخذاً في الاعتبار؛ حالات التمييز بين أصحاب المراكز القانونية المختلفة، فهو تمييز منطقي ومبرر، فالمساواة لا تكون إلا بين أصحاب المراكز القانونية المتساوية.


فالمشرع يملك لمقتضيات الصالح العام وضع شروط عامة ومجردة تحدد المراكز القانونية التي يتساوى بها الأفراد أمام القانون، بحيث يكون لمن توافرت فيهم هذه الشروط دون سواهم أن يمارسوا الحقوق التي كفلها لهم المشرع.


فإذا قام التماثل في المراكز القانونية التي تنظم بعض فئات المواطنين، وتساويهم تبعاَ لذلك في العناصر التي تكونها، استوجب ذلك وحدة القاعدة القانونية التي ينبغي تطبيقها في حقهم، فإن خرج المشرع على ذلك سقط في حمأة المخالفة الدستورية.


كما عمدت المحكمة الدستورية إلى الربط بين مبدأ المساواة في التشريعات والأغراض التي يتوخاها المشرع من القانون، وذلك بقولها أنه:

" إذا كان الأصل في كل تنظيم تشريعي، أن يكون منطوياً على تقسيم أو تمييز من خلال الأعباء التي يلقيها على البعض، أو عن طريق المزايا أو الحقوق التي يكفلها لفئة دون غيرها، إلا أن مناط دستورية هذا التنظيم ألا تنفصل نصوصه عن أهدافها، ليكون اتصال الأغراض التي توخى تحقيقها بالوسائل التي لجأ إليها منطقياً، وليس واهناً أو واهماً أو منتحلاً، بما يخل بالأسس التي يقوم عليها التمييز المبرر دستورياً ".


مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات


تنص المادة (95) من الدستور على أن: " العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون ".

كما تقضي المادة الخامسة من قانون العقوبات المصري بأن: " يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها ".


والواقع أن المواد السابقة ترسخ مبدأ دستوري يأتي في صدارة قواعد العدالة الجنائية، جاء كثمرة لصراع طويل بين السلطة والفرد شهده تطور القانون الجنائي منذ عهد بعيد، وعرفته البشرية حتى قبل أن تعرف الدساتير والتشريعات في صورتها الكاملة.

وأضحى هذا المبدأ من مقومات الشرعية الدستورية وأحد دعائم سيادة القانون، ألا وهو مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات أو مبدأ الشرعية الجنائية.


ويعني المبدأ أن: " المشرع دون غيره هو الذي يحتكر سلطتي التجريم والعقاب في المجتمع: فالنصوص التشريعية - دون غيرها من مصادر القانون الأخرى - هي وحدها التي تنشئ الجرائم الجنائية وتحدد الجزاءات الجنائية المقررة من أجلها.

وإلى تلك النصوص وحدها يتعين الرجوع لبيان ما إذا كان فعل ما أو امتناع يخضع للتجريم الجنائي، ولتحديد أركان الجريمة، وتقرير الجزاء المترتب على اقترافها.


دور مبدأ الشرعية الجنائية في حماية الحقوق والحريات:


يؤدي مبدأ الشرعية الجنائية دوراً بالغ الأهمية لحماية حقوق وحريات الأفراد. فحصر مصادر التجريم والعقاب في النص القانوني المكتوب دون غيره، من شأنه صيانة مركز الفرد في مواجهة سلطة الدولة.

فمن يأت فعلاً لم يجرمه القانون هو - طبقاً لهذا المبدأ - في مأمن من المسئولية الجنائية، وليس في وسع السلطات العامة أن تلومه من أجل ما فعل.


والمبدأ يضع بذلك حدوداً واضحة تفصل بين المشروع وغير المشروع، وهو ما يقتضيه المنطق بأن يكون ضبط سلوك الأفراد مسبوقاً حتماً بوضع قاعدة للسلوك تبين لهم التصرف المطلوب الابتعاد عنه أو المطلوب القيام به.

أي ضرورة أن ينذر المشرع قبل أن يعاقب، وأن يحذر قبل أن يضرب، وهو ما يتكفل به مبدأ الشرعية. وبغير هذا المبدأ، سوف يعصف بحقوق وحريات الأفراد، لأن الفرد سوف يجد نفسه تحت قبضة الدولة، تفاجئه بتجريم لم تعلن عنه أو تباغته بـ عقوبة لم تكن مقررة.


كذلك فالمبدأ يضع حداً بين سلطة المشرع الجنائي المنفردة في إصدار قواعد التجريم والعقاب من خلال النصوص التشريعية، ودور القاضي الجنائي الذي ينحصر في تطبيق تلك النصوص التشريعية فقط. ويعكس مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ثلاث نتائج رئيسية:


النتيجة الأولى: انفراد التشريع بوضع قواعد التجريم والعقاب:


فالنتيجة الأولى والحتمية لمبدأ الشرعية الجنائية هي حصر مصادر التجريم والعقاب في النصوص التشريعية وحدها دون غيرها من مصادر القانون الأخرى (كالعرف وقواعد العدالة ....)، والتي قد تصلح مصدراً لقوانين أخرى غير جنائية.


وقد عهدت المادة (101) من الدستور المصري إلى مجلس النواب بتولي سلطة التشريع، باعتباره الممثل الوحيد لمصلحة المجتمع، والمتحدث باسمه معلناً عن واقعه وتطلعاته.

فله أن يجرم أي فعل يراه جديراً بالتأثيم، وأن يقدر له العقوبة المناسبة كماً ونوعاً، فالأصل في سلطة المشرع هو إطلاقها، باعتبار أن جوهر تلك السلطة هو المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم التشريعي.

موازناً بينها، مرجحاً ما يراه أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التي يتوخاها، وأكفلها لأكثر المصالح وزناً في مجال إنفاذها. وليس ثمة قيد على مباشرة المشرع لسلطته هذه، مالم يكن الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة.


كما أنه اختصاص مقيد، بحيث لا تملك السلطة التشريعية أن تتنازل عنه أو تعهد به كلياً إلى السلطة التنفيذية دون أن تقيدها بالضوابط الرئيسية للتشريع، وتحدد لها النطاق الذي تعمل من خلاله.


النتيجة الثانية: إمكانية إقرار قواعد التجريم والعقاب عن طريق اللائحة:


استقر الفقه والقضاء على جواز وضع نصوص التجريم والعقاب عن طريق اللوائح التي تصدر عن السلطة التنفيذية، تأسيساً على صياغة المادة (95) من دستور2014 ( المقابلة للمادة 66 من دستور1971)، والتي قررت أنه " لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ".

ولو أن الشارع الدستوري قصد حصر مصادر التجريم والعقاب في القانون الصادر عن البرلمان فقط لجاءت صياغة المادة في عبارة " لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون" وهو ما لم يحدث.


إضافة إلى أن المواد من 170: 172 من دستور 2014 عهدت بإصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين ولوائح الضبط إلى رئيس مجلس الوزراء. كما أن مخالفة أحكام اللوائح العامة المحلية جريمة بمقتضى نص المادة 380 من قانون العقوبات.


ونعتقد أن دور اللائحة في التشريع دوراً مساعداً أو مكملاً للتشريع وليس دوراً استثنائياً، فاللائحة لا تمارس التشريع ابتداء على أي الأحوال، ولا تقوم بدور المشرع في الموازنات التي يجريها حين يقرر إدخال فعل أو امتناع ما من مجال الإباحة إلى دائرة التجريم، وإنما تقوم اللائحة بتنظيم وتنفيذ ما يقره المشرع.


فالدستور لم يسمح باستخدام اللائحة في التجريم والعقاب إلا تحقيقاً للتعاون بين السلطات، وكفالة لحسن تطبيق السياسة الجنائية للمشرع وصولاً إلى تحقيق الأغراض التي توخاها، ولما قد يعترض المشرع من صعوبات فنية تتطلب قدراً من التخصص في بعض المجالات.


وبالتالي؛ فإن الدستور قد سمح للائحة بوضع نصوص التجريم والعقاب كي تحدد التفاصيل والقواعد اللازمة لتنفيذ القانون مع الإبقاء على حدود القانون الأصلية دون مساس.


النتيجة الثالثة: حظر الأثر الرجعي لنصوص التجريم والعقاب:


تقضي المادة (95) من الدستور بأنه: " ....، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون " مقررة بذلك حظر الأثر الرجعي لنصوص التجريم والعقاب. وحتى حين قرر الدستور بمقتضى نص المادة (225) منه إمكانية امتداد نطاق سريان القوانين إلى الماضي بشروط معينة، استثنى من ذلك نصوص التجريم والعقاب من خلال عبارة " في غير المواد الجنائية ".


ومؤدى ذلك، أن المقنن لا يخضع للعقاب إلا الأفعال التي ترتكب في ظل القانون الجنائي بعد نفاذه إذا كانت هذه الأفعال مطابقة لنماذج التجريم التي حددها هذا القانون.

وقد تكفلت المادة الخامسة من قانون العقوبات بتأكيد المبدأ المذكور بالمادة (95) من الدستور، وبيان حدود تطبيقه، والاستثناء الذي يرد عليه، حين قررت أن:

" يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها. ومع هذا إذا صدر بعد وقوع الفعل وقبل الحكم فيه نهائياً قانون أصلح للمتهم فهو الذي يتبع دون غيره. وإذا صدر قانون بعد حكم نهائي يجعل الفعل الذي حكم على المجرم من أجله غير معاقب عليه يوقف الحكم وتنتهي آثاره الجنائية. غير أنه في حالة قيام إجراءات الدعوى أو صدور حكم بالإدانة فيها وكان ذلك عن فعل وقع مخالفاً لقانون ينهى عن ارتكابه في فترة محددة، فإن انتهاء هذه الفترة لا يحول دون السير في الدعوى أو تنفيذ العقوبات المحكوم بها ".


وترتيـباً على ذلك؛ فإن الـمبدأ الرئيـس في سـريان نـصوص التجريم والعقاب هو عدم ارتدادها إلى الماضي. فـلا يـمكن مساءلة الأفراد عن أفعال قاموا بها لم تـكن فـي وقـتها محلاً للتجريم، ففي ذلك إهدار لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وتهديداً جسيماً لحقوق وحريات الأفراد لا يمكن قبوله.


واستثناء من الأصل العام الذي يحظر الأثر الرجعيلنصوص التجريم والعقاب، يستفيد المتهم من القانون الجديد الذي يجعله في موقف أفضل، إذا صدر هذا القانون قبل صدور حكم نهائي بشأن الفعل الذي ارتكبه.

لئلا يحدث خلل في ميزان العقاب حين يظل المتهم خاضعاً للنص القديم الأشد، بينما يخضع مرتكب ذات الفعل بعد العمل بالقانون الجديد الأفضل لهذا الأخير، فيتفاوت مصيراهما رغم تطابق فعليهما!.


والمقصود بالحكم النهائي في هذا السياق هو الحكم البات الذي استنفذ كافة وسائل الطعن فيه جميعها، وليس الحكم النهائي الذي استنفذ طرق الطعن العادية (المعارضة والاستئناف) ويقبل الطعن عليه بطريق النقض.


كذلك ومن باب أولى، يمتد أثر القوانين الجنائية إلى الماضي ويستفيد منها المتهم حال صدور نص تشريعي ينفي صفة التجريم عن الفعل الذي ارتكبه المتهم، مخرجاً إياه من دائرة التجريم إلى فضاء الإباحة.

أو إذا استحدث النص الجديد سبباً للإباحة أو مانعاً من العقاب أو مانعاً من المسئولية الجنائية. إذ لا معنى لبقاء المحكوم عليه تحت وطأة العقوبة في حين قرر المشرع التخلي عن موقفه إزاء سلوك معين، وقرر عدم جدارته بالتجريم أو إباحته أو منع العقاب عليه في ظروف معينة.


ووفقاً لنص الفقرة الأخيرة من المادة الخامسة من قانون العقوبات؛ فإن الاستثناء السابق الخاص برجعية القانون الأصلح للمتهم لا يستفيد منه من يرتكب جريمة في ظل قانون مؤقت، صدر ليجرم أفعالاً في مدة محددة فيما يعرف بالقوانين محددة الفترة، وذلك بعد انتهاء هذه الفترة.

وإلا ضاعت الحكمة التشريعية من مواجهة بعض الأوضاع الاستثنائية بقواعد أكثر تشدداً وصرامة.


ويثير مبدأ حظر الأثر الرجعى لنصوص التجريم والعقاب بعض التساؤلات بالنسبة لأنواع معينة من الجرائم، كالجرائم التي تنفصل فيها لحظة وقوع الفعل عن لحظة تحقق النتيجة كالضرب بقصد القتل، ووقوع فعل الضرب في ظل القاعدة القديمة وتحقق الوفاة بعد صدور النص الجديد.

وقد استقر الرأي على تحديد القاعدة واجبة التطبيق بالنظر إلى القاعدة التي وقع النشاط الإجرامي في ظل سريانها.

وذلك بعكس الجرائم المستمرة كحمل سلاح بدون ترخيص، وجرائم الاعتياد كالاعتياد على ممارسة الفسق والفجور، حيث تعتبر الجريمة واقعة في ظل النص القانوني الجديد ولو قرر أحكاما أشد.


الحصانة الموضوعية لأعضاء مجلس النواب


تنص المادة (112) من الدستور على أن: " لا يسأل عضو مجلس النواب عما يبديه من آراء تتعلق بآداء أعماله في المجلس أو في لجانه ".


ولاشك أن الحكمة التي ابتغاها المشرع الدستوري من منح هذه الحصانة لأعضاء مجلس النواب هي تمكينهم من آداء العمل البرلماني في قدر من الحرية والأمان.

سواء في أعمال المجلس النيابي التي تتضمن اقتراح القوانين وتعديلاتها وتقديم الاستجوابات للوزراء ومناقشة الموازنة العامة للدولة وخلافه، أو في لجان المجلس المتخصصة، وما قد ينتج عن ذلك من مناقشات محتدمة، أو صدامات متوقعة مع الحكومة وأعضاء السلطة التنفيذية.


لذا؛ حرص المشرع الدستوري على كفالة قدر من الحماية لأعضاء مجلس النواب لإتاحة المجال أمام ممارسة وظيفتهم النيابية بشكل فعال.

وتتمثل تلك الحماية في إعفائهم من المسئولية الجنائية عما يصدر عنهم قولاً أو كتابةً - أثناء ممارسة العمل البرلماني - ويكون موضعاً للمساءلة الجنائية بالنسبة لغيرهم في الوضع المعتاد.


ويلزم بالطبع لإعمال تلك الحصانة، ثبوت ضرورة القول أو الفعل الصادر عن عضو مجلس النواب أثناء ممارسة العمل البرلماني، أو على الأقل أن يكون صدور القول أو الكتابة من العضو منطقياً ومبرراً في سياق أعمال المجلس.


لذلك؛ يظل النائب مسئولاً عما يصدر عنه من آراء تمثل أعمال سب وقذف خارج قاعات المجلس ولجانه، وبذلك يكون مسئولاً عما يبديه من آراء أو أفكار في أي مكان آخر، أو بالنشر في الصحف أو في أي وسيلة من وسائل الإعلام الأخرى. وهو ما أكده الـمجلس الـدستوري الـفرنسي، والـمحكمة الدسـتورية الإيطالية.


شروط إجراء التجارب الطبية والعلمية على جسم الإنسان


تنص المادة (60) من الدستور على أن:

" لجسد الإنسان حرمة، والاعتداء عليه، أو تشويهه، أو التمثيل به، جريمة يعاقب عليها القانون. ويحظر الإتجار بأعضائه، ولا يجوز إجراء أية تجربة طبية، أو علمية عليه بغير رضاه الحر الموثق، ووفقاً للأسس المستقرة في مجال العلوم الطبية، على النحو الذي ينظمه القانون ".

وتشتمل المادة سالفة الذكر على مبدأ عام هو حرمة جسد الإنسان، أي حقه في سلامة جسده من كافة صور الاعتداء التي قد تقع عليه.


وقد تكفل قانون العقوبات في الكتاب الثالث منه تحت عنوان " الجنايات والجنح التي تحصل لآحاد الناس" بتجريم كافة صور الاعتداء على جسد الإنسان، ولاسيما في الباب الأول من الكتاب الثالث الذي يضم المواد من230 حتى251 مكرر.

حيث تركزت فيه معظم المواد المتعلقة بتجريم صور الاعتداء على سلامة جسد الإنسان من قتل وجرح وضرب.

كما وردت بعض المواد الخاصة بحماية حق الإنسان في سلامة جسده بالباب الثالث من الكتاب الثالث من قانون العقوبات، كالمادة (265) من قانون العقوبات التي تجرم إعطاء المواد الضارة، والمواد (269،268،267) بالباب الرابع من الكتاب نفسه والتي تجرم الاغتصاب وهتك العرض.


كما تضمنت المادة (60) من الدستور مبدأ آخر يتعلق بإجراء التجارب الطبية والعلمية على جسد الإنسان، إذ لا يجوز إجراء أي تجربة طبية أو علمية على جسد الإنسان بغير رضاء صحيح منه.

وتتمثل صحة هذا الرضاء في كونه حراً وموثقاً، إضافة إلى وجوب مراعاة الأسس المستقرة في مجال العلوم الطبية والتي من شأنها الحفاظ على سلامة جسد الإنسان من أي مخاطر قد يتعرض لها كنتيجة لتطبيق تلك التجارب عليه، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون.


وقد شهد المبدأ المذكور نوعاً من التطور والتحديد في دستور2014، عنه في دستور1971 الذي جاء بالمبدأ في المادة (43) منه مقرراً أنه: " لا يجوز إجراء أي تجربة طبية أو علمية على أي إنسان بغير رضائه الحر".

فلم تشترط المادة (43) من دستور1971 أن يكون الرضاء موثقاً، ولا أن تتم مراعاة الأسس المستقرة في مجال العلوم الطبية، وهو ما تداركه المشرع الدستوري في نص المادة (60) من دستور2014.


هل يجوز إجراء التجارب الطبية على جسم الإنسان؟


إلا أنه على الرغم من ذلك، يظل نص المادة (60) من دستور 2014 يعاني نوعاً من افتقاد الدقة بشأن إجراء التجارب العلمية البحتة على جسد الإنسان، ولم يتضمن عبارة صريحة تحظر إجراء تجربة علمية محضة على جسد الإنسان دون اقترانها بغرض علاجي.

فقد تلحق بجسد الإنسان أضراراً لا حصر لها لمجرد إثبات رأى علمي أو البحث عن نتيجة علمية محتملة.


وكتب أستاذنا الكبير سيادة الأستاذ الدكتور/ محمود نجيب حسني - رحمه الله وأكرم مثواه - رأيه تعليقاً على نص المادة (43) من دستور1971 بشأن إجراء التجارب الطبية على جسد الإنسان، مقرراً:

عدم جواز إجراء تجربة علمية محضة على جسم الإنسان، ولو رضى بذلك، إذ لا قيمة لهذا الرضاء، لمخالفته للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها المجتمع المتحضر، وهي مبادئ تعلو على الدستور نفسه، لأنها تمثل كيان المجتمع وأسسه.

فجسم الإنسان أهم اجتماعياً من أي تقدم علمي يتطلع المجتمع إلى الحصول عليه عن طريق التجربة العملية. ومن ثم كان هذا الرضاء باطلاً لمخالفته " للنظام العام " مفهوما في ضوء التحليل السابق.


أما بالنسبة لإجراء التجارب الطبية على جسد الإنسان للأغراض العلاجية، فإن نص الدستور قد حدد شروطاً يجب توافرها مجتمعة لإباحة إجراء التجربة الطبية على جسد الإنسان:

يأتي في مقدمتها الرضاء الحر الموثق من صاحب الشأن، وأن تتم التجربة وفقاً للأسس المستقرة في مجال العلوم الطبية، كأن يتكشف للطبيب المعالج أن الوسائل التقليدية قاصرة عن تقديم العلاج للمريض.

وأن ثمة أسلوباً جديداً اكتشفه أو كشفه عالم آخر ولم يطبق بعد، ويرجح أن يكون من شأنه شفاء المريض، وأن تقر هذا الأسلوب الجديد الأسس المستقرة في علم الطب، وأن يكون الطبيب المعالج مقتنعاً بجدواها، وأن يكون هدف الطبيب منها شفاء المريض، وليس مجرد تجربتها.

كما يشترط كذلك توافر الشروط التي تقتضيها مشروعية العمل الطبي.


والواقع أن تفسير نص المادة (60) من الدستور على أساس ضرورة توافر الشروط سالفة الذكر مجتمعة، هو ما يتماشى مع غرض الدستور من هذا النص، وهو حماية حق الإنسان في سلامة جسده، بحيث لا يتم التعرض لجسد الإنسان بغير رضاء صحيح موثق منه، ولغرض علاجي حقيقي.


قائمة المراجع والمصادر:


أولاً: المراجع الأجنبية:


  1. JOEL SAMAHA: Criminal Law, USA, Wadsworth Cengage learning, 10 Edition, 2010, p.40:41. & James R. Acker and JoAnne M. Malatesta: Introduction to Law and Criminal Justice, USA, Jones and Bartlett Publishers, 2014.
  2. GABRIAL HALLEVY: A modern Treatise On The Principle Of Legality In Criminal Law, USA, Springer, 2010.
  3. Sträuli: Droit pénal général, Paris, AED, 2008-2009.
  4. Marc Puech: Droit Pénal général, Paris, Litec, 1988.
  5. Charles Doyle: Corporate Criminal Liability: An Overview of Federal Law, USA, Congressional research service, 2013.
  6.  Xavier Pin: Droit pénal général, Paris, Dalloz, 2 édition, 2007.
  7. Dorsey v. United States, 567 U.S. 260 (2012).


ثانياً: المراجع العربية:


  1. د/ سامي جمال الدين، الشريعة الإسلامية مصدر رسمي للقانون أم مصدر موضوعي للتشريع " قراءة في نص المادة الثانية من الدستور"، مقال منشور في مجلة الدستورية، العدد 22، السنة العاشرة، أكتوبر2012.
  2. د/ محمد شكري سرور، النظرية العامة للقانون، القاهرة، دار النهضة العربية، 2008 – 2009.
  3. د/ عبد الأحـد جـمال الـدين، في الشرعية الجـنائية، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية، السنة 16، العدد الثاني، يوليو 1974.
  4. د/ نعمان عطا الله الهيتى، تشريع القوانين " دراسة دستورية مقارنة "، دمشق، دار رسلان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2007.
  5. د/ عبد الفتاح مصطفى الصيفي، الأحكام العامة للنظام الجنائي في الشريعة الإسلامية والقانون، الإسكندرية، دار المطبوعات الجامعية، 2013.
  6. د/ علي عطية علي، الحماية الجنائية لحقوق الإنسان، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، 2013.
  7. د/ حمدي علي عمر، النظام الدستوري المصري وفقاً لدستور2014، الإسكندرية، منشأة المعارف، 2016.

 

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -