ط
أخر الاخبار

ضوابط تقدير العقوبة في ضوء مبادئ حقوق الانسان وضرورة معقولية العقوبة

 مفهوم العقوبة:

"العقوبة حق يستقضى لا سلطة تستأدى". هكذا يعبر الفقه الجنائي الحديث عما وصل إليه تطور مفهوم الجزاء الجنائي في الوقت المعاصر. فلم يعد ارتكاب الفرد للجريمة خطيئة لا تغتفر، ومبرراً لنبذه وطرده من رحاب الجماعة الإنسانية.

كما لا تقبل دولة القانون أن يستمر استخدام العقوبة الجنائية للخلاص من أولئك الذين لا ترغب السلطات الحاكمة في بقائهم لأي سبب كان.

التناسب بين العقوبة والجريمة, العقوبات القاسية, تحديد العقوبة, العقوبة, العقاب, حقوق الانسان, القانون الطبيعي
ضوابط تقدير العقوبة في ضوء مبادئ حقوق الانسان وضرورة معقولية العقوبة

فالعقوبة خطيرة، إذ هي تمس أهم الحقوق، فإذا لم تحط بالضمانات القوية تحولت إلى سلاح استبداد قاسٍ في يد السلطات العامة، وعصفت عن طريقها بالحريات الفردية على نحو لا يمكن تقبله.

العقوبة تهدف إلى تحقيق العدالة وليس الانتقام:

وقد أظهرت مراحل تطور رد الفعل الاجتماعي تجاه مرتكب الجريمة ضرورة معاملته بالوسائل القانونية المناسبة التي تكفل اقتضاء حق المجني عليه والمجتمع منه، إلى جانب كفالة تحقيق أغراض العقوبة.

وأصبح من المستقر أن العقوبة التي يفرضها المشرع في شأن جريمة حدد أركانها، تبلور مفهوماً للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التي تستهدفها.

والتي لا يندرج تحتها رغبة الجماعة أو حرصها على إرواء تعطشها للثأر والانتقام، أو سعيها ليكون بطشها بالمتهم تكفيراً عما أتاه.

لذا؛ فقد أصبح هناك العديد من الضوابط الدستورية وغير الدستورية - التي تجد مصدرها في قواعد القانون الطبيعي والقيم الإنسانية العالمية – التي يجب على المشرع الجنائي أن يضعها في اعتباره عند تقدير العقوبة.

كما أصبح الواجب الأساسي للمشرع الجنائي أن يحدد الجزاء " المناسب " للجرائم الجنائية.

بكل ما يحمله هذا التناسب من معنى، وبما يكفل إعادة التوازن إلى جميع الحقوق والمصالح التي اختلت بارتكاب الجريمة، ويُظهِر إيمان المشرع بقيم الحق والعدل جميعها دون غلوٌ ولا تفريط.

ضوابط تقدير العقوبة:

ويأتي في مقدمة ضوابط إقرار الجزاء الجنائي؛ ضرورة مراعاة المشرع لـ مبدأ إنسانية العقوبة، وإبعاد العقوبة مطلقاً عن القسوة والوحشية أو امتهان كرامة الإنسان.

وذلك وفقاً للقيم التي ارتضتها الجماعة الإنسانية بأسرها، ولا تقبل التفريط فيها، بعد ما بلغته من تطور على كافة المستويات.

ويفرض ذلك بالطبع ضرورة التزام المشرع الجنائي بضابط التناسب بين العقوبة الجنائية والجريمة التي توقع من أجلها.

والذي يعني بشكل عام: التعادل بين مقدار الإيلام الذي يحل بالجاني من جهة، ودرجة الإذناب التي كشفت عنها جريمته، والأضرار التي رتبتها هذه الأخيرة في حق المجتمع والغير من جهة أخرى.

وهو ما يقتضي لزوماً التقيد بمبدأ عدم جواز محاسبة الشخص عن فعله مرتين.

ثم يأتي مبدأالمساواة باعتباره أحد دعائم الشرعية الدستورية بشكل عام، ليجد مجاله في شأن تطبيق الجزاء الجنائي على الأفراد، مع مراعاة ما تقتضيه أغراض العقوبة الجنائية عند تنفيذها على الأفراد.

وذلك وفقاً لظروف كل جريمة، وملابسات ارتكابها، وطبائع شخصيات الجناة فيها إعمالاً لـ مبدأ تفريد العقوبة الجنائية.

مبدأ إنسانية العقوبة الجنائية:

لا شك أن إنسانية العقوبة الجنائية أصبحت مفترضاً أساسياً لشرعيتها، فلم يعد هناك مكان لفكرة الانتقام من الجاني أو إهانة كرامته ضمن أهداف الجزاء الجنائي في المجتمعات الحديثة.

فبعد استقضاء حق المجتمع وحق المجني عليه؛ يستهدف الجزاء الجنائي إعادة إدماج الجاني في المجتمع، وصرف ذهنه عن التفكير في ارتكاب جرائم جديدة.

ولن يتحقق ذلك بالطبع إذا كان هناك مبالغة في إيلام الجاني بالصورة التي يفقد معها سبل العودة لشخصيته السويَّة قبل ارتكابه للجريمة.

لذلك؛ فمن الضروري أن يبتعد الجزاء الجنائي عن فكرة إهانة الجاني أو امتهان كرامته، لأن الوصول بالجزاء الجنائي إلى هذا الحد يرسخ في ذهن الجاني أن لحظة ارتكابه للجريمة كانت نقطة اللاعودة.

تاريخ العقوبة الجنائية ين القسوة وعدم المشروعية:

كانت المجتمعات القديمة تموج في طوفان من القهر والظلم والضلال والهمجية، فالنظرة السريعة عبر الزمان والمكان تبين بوضوح حجم المعاناة التي عاناها الإنسان.

حيث أهين وأهدرت كرامته، وتحمل صنوفاً من القهر والإذلال والطغيان، سواء من حكام مستبدين، أو من محتلين غاصبين.

ولم ينفصل وضع العقوبات الجنائية في تلك المجتمعات عن واقعها المظلم والقيمة المنعدمة لحقوق الإنسان لديها.

ففي البداية؛ وفضلاً عن أن العقوبة الجنائية شهدت إفراطاً وظلماً وانتقائية في إقرارها، كانت الدولة تحاول التمثيل بالمخالف حتى يظل مشهد تعذيبه ماثلاً لا تمحوه الأيام.

ولعل في تنفيذ حكم الإعدام على المدعو " داميان " والذي أورد تـفاصيله ميـشيل فـوكو ما يـعبر عن الاحـتفالية التي كان يتم بها تعذيب جسد المحكوم عليه.

وكان من الطبيعي أن يلفظ الضمير الإنساني تلك الممارسات الوحشية بمرور الوقت وتنامي الفكر الإنساني، الذي سلم بوجود مجموعة من الحقوق التي ترتبط بالإنسان بوصفه إنساناً مُكَرَّماً من الخالق، ويسمو على سائر المخلوقات.

وحتى حينما يخطئ وينحرف سلوكه، لا يجب أن يتجرد من هذا التكريم الذي يرتبط بإنسانيته.

دور مبادئ وأفكار حقوق الانسان في تطور مفهوم العقوبة:

فكرة حقوق الإنسان تعبر عن فلسفة القانون الطبيعي الذي يرى أن هناك نوعاً من الحقوق لا يحتاج إقرارها إلى إرادة المشرع لأنها (طبيعية).

أي تنشأ للإنسان بحكم طبيعته الإنسانية، فهي - كما يدل على ذلك وصفها - مصدرها الطبيعة، ومنهلها نظامها.

وهي بالتالي حقوق لا تُنَازَع، ولا تتقيد بزمان أو بمكان، على تقدير أن وضوحها لا يحتاج إلى بيان، وأن طبيعتها الشاملة تتأبى على ربطها بالأوضاع القائمة في بلد ما؛ أو بنوع الطبقة الحاكمة فيها.

كما تعتبر حقوقاً أساسية لأنه لا يمكن للفرد أن ينعم بحياته داخل المجتمع بدون احترام هذه الحقوق، وقد قيل بأنه يمكن التعرف على هذه الحقوق بالعقل، فلا يجوز لأية سلطة وضعية أن تخالفها وإلا كان القانون المخالف لها غير شرعي.

كما قيل بأنه نظراً إلى أن هذه الحقوق الطبيعية يتبينها العقل فإنها تتصف بالعالمية، ولذلك فإن القانون الوضعي في تحديده للحقوق والحريات يخضع للقانون الطبيعي.

وينهض القانون الوضعي بدور فعال في حماية هذه الحقوق (الطبيعية) نظراً لما يوفره من حماية قضائية تكفل احترامها إذا ما تعرضت للانتهاك.

مبادئ القانون الطبيعي في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية:

ويقرر العلامة (ديجى) أن الدولة تخضع لقاعدة قانونية أعلى منها، لا تملك لها خلقاً ولا تستطيع مخالفتها، فالقانون لم تخلقه الدولة، بل هو شيء خارج عنها، كما أن فكرة القانون هي فكرة مستقلة كل الاستقلال عن فكرة الدولة.

والقاعدة القانونية تفرض طاعتها على الدولة كما تفرض طاعتها على الأفراد، وبالتالي لا يكون التشريع صحيحاً لمجرد موافقته لنصوص الدستور، بل يجب كذلك أن يتفق مع القانون الأعلى الذي يحكم نصوص الدستور ذاتها.

ويلاحظ أن الفقه والقضاء الأمريكيين يرجعون كثيراً من مفاهيم الدستور الأمريكي إلى القانون الطبيعي - وهو قانون يقوم في مجمل أحكامه على حقائق العدل التي يدركها العقل - وهم يؤيدون رأيهم قائلين بأن:

كافة الحقوق التي أدرجتها في صلبها الوثائق الأمريكية لإعلان الحقوق، لها جذورها من القانون الطبيعي، وأن لغتها في التعبير عنها، هي أنها حقوق طبيعية لا يجوز النزول عنها، أو التعامل فيها.

وأن الحقوق التي نصفها اليوم بالحقوق الأساسية، جميعها حقوق نظر إليها آباء الدستور بوصفها من الحقوق الطبيعية.

وتطبيقاً لذلك؛ اتجهت المحكمة العليا الأمريكية منذ بداية السبعينيات في مقام تحديد المقصود بالحرية إلى أن فكرتها تتجاوز مجرد التحرر من تقييد حركة الانسان لكي تتضمن تقريباً كل الحقوق التي تهم الفرد.

واتجهت كذلك إلى أن العبارات التي نص عليها التعديل الرابع عشر للدستور الأمريكي بالنسبة إلى شرط استعمال الوسائل القانونية السليمة، الذي يضمن تطبيق العنصر الموضوعي لمبدأ سيادة القانون (وهو حماية الحقوق والحريات)،

تنصرف إلى فكرة واحدة تتضمن جميع المصالح ذات القيمة الإنسانية، والتي تندرج تحت مجموعة حقوق الإنسان، وغير مقيدة بالضمانات الواردة في إعلان الحقوق Bill of rights.

وفي قضية Deck v. Missouri، قررت المحكمة العليا الأمريكية أن:

الدستور يحظر استخدام الأغلال الظاهرة خلال مرحلتي الإذناب وعقوبة الإعدام، ما لم يبرر هذا القيد مصلحة الدولة الأساسية المحددة للمدعى عليه في المحاكمة (مثل أمن قاعة المحكمة).

ولم يختلف الأمر في فرنسا عن ذلك، لاسيما؛ وأن الدستور الفرنسي لعام 1958 قد أشار في ديباجته إلى ضرورة الالتزام بإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789.

وقد أكد المجلس الدستوري الفرنسي أن هذه الديباجة تتمتع بذات القيمة الدستورية لنصوص الدستور.

وبالفعل، أعلن المجلس الدستوري الفرنسي عدم دستورية النصوص التي تخالف مقدمة دستور 1958 التي قررت تمسك الشعب الفرنسي بحقوق الإنسان.

كما أكد المجلس الدستوري أيضاً على دستورية مبدأ حماية الكرامة الإنسانية من واقع مقدمة وديباجة دستور 1946.

مبادئ حقوق الإنسان وقواعد القانون الطبيعي في النظام القانوني المصري:

يؤكد الفقه المصري اعتناق المشرع الدستوري لفكرة الحقوق الطبيعية وفقاً لنص المادة (41) من دستور1971، والتي يقابلها نص المادة (54) من دستور2014، والتي تقضي بأن:

" الحرية الشخصية حق طبيعي "، مشيراً بذلك إلى أن السلطة السياسية التي وضعت الدستور قد أكدت أن الحرية وإن أعلنتها إرادة هذه السلطة، إلا أنها مستوحاة ومستمدة من الطبيعة الإنسانية للفرد.

وهو ما أكدته المحكمة الدستورية العليا بقولها أن:

" خضوع الدولة للقانون يعني عدم إخلال تشريعاتها بالحقوق التي يعتبر التسليم بها في الدول الديمقراطية مفترضاً أولياً لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة ".

كما أن المحكمة الدستورية العليا أشارت صراحة في أحد أحكامها إلى مبادئ العدالة كقيمة في ذاتها لا يمكن للمحكمة أن تغفلها، وذلك بقولها أن:

" الدستور قرن العدل بكثير من النصوص التي تضمنها، ليكون قيداً على السلطة التشريعية في المسائل التي تناولتها هذه النصوص، وإنه وإن خلا من تحديد لمعنى العدالة في تلك النصوص.

إلا أن المقصود بها ينبغي أن يتمثل فيما يكون حقاً وواجباً سواء في علائق الأفراد فيما بينهم، أم في نطاق صلاتهم بمجتمعهم.

بحيث يتم دوماً تحديدها من منظور اجتماعي، ذلك أن العدالة تتوخى - بمضمونها - التعبير عن القيم الاجتماعية السائدة في مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة ".

خاتمة:

ومن جماع ما سبق؛ يمكن القول ان مبادئ حقوق الإنسان وحفظ كرامته على أي حال، لم تعد رفاهية تملك الدول منحها لرعاياها أو منعها عنهم، وأنه يلزم مراعاة إعمالها أثناء اقتضاء حق الدولة في العقاب.

وفي مقدمة هذه الحقوق استبعاد العقوبات التي تتضمن القسوة والإفراط في الايلام الواقع على مرتكب الجريمة، وكذلك العقوبات التي يتضمن تنفيذها امتهان لكرامة الإنسان أو تعذيبه أو التعبير المبالغ فيه عن سطوة الدولة.

فثبوت مسئولية الفرد عن ارتكاب الجريمة الجنائية وجدارته بالجزاء الجنائي لا يبرر إطلاقاً امتهان كرامته واستباحة حقوقه كإنسان.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -