ط
أخر الاخبار

مبدأ الشرعية الجنائية

 مضمون مبدأ الشرعية الجنائية:


يعني مبدأ الشرعية الجنائية أن مهمة التجريم والعقاب الذي تضعه الدولة في مواجهة الأفراد، تقتصر على السلطة التشريعية وحدها في اختصاص منفرد لها، لا يجوز لغيرها ممارسته، كما لا يجوز لها أن تتنازل عنه أو تفوض فيه غيرها إلا في نطاق محدود للغاية.


مبدأ الشرعية الجنائية, مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات, مبدأ الشرعية في القانون الجنائي, مبدأ الشرعية في قانون العقوبات, مبدأ شرعية التجريم والعقاب
مبدأ الشرعية الجنائية


تحدد السلطة التشريعية من خلاله سلفاً ما يعد جرائم، وتبين العقوبات المقررة لها في صورة قواعد جنائية محددة ومنضبطة، لا ينصرف سريانها إلى الماضي إلا لصالح الأفراد. فالقانون المكتوب وحده هو الذي يحدد الأفعال المعتبرة جرائم، وهو الذي يضع العقوبات المقررة على ارتكابها.


وينبغي دائماً على سلطة التشريع ألا تسرف في التجريم عن طريق المعاقبة على سلوك ينطوي على ممارسة لحق أو لحرية كفلها الدستور، أو المعاقبة لحماية مصلحة لا تهم أغلبية المجتمع ولا تعبر عن ضميره.


وهو ما عبر عنه المجلس الدستوري الفرنسي حين قال أن: " المشرع يتولى تعريف الجرائم وتحديد أركانها ولا يجب أن يكون " متعسفاً ".


تاريخ مبدأ الشرعية الجنائية:


والواقع، ان مبدأ الشرعية الجنائية له جذور تاريخية عميقة، فقد أخذ القانون الإنجليزي بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات منذ أن صدر ميثاق هنري الأول، ثم تضمنه دستور كلاريندون، ثم تضمنه بعد ذلك العهد الأعظم (Magna Charta) سنة 1216 الذي قرر سمو قواعد القانون في إنجلترا.


وعرف المبدأ بعد ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ نص عليه إعلان الحقوق الصادر سنة 1773.


وتبنته بعد ذلك الثورة الفرنسية، فأعطته صياغة واضحة ومحددة في المادة الثامنة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26 أغسطس لسنة 1789، والتي نصت على أنه " لا يعاقب أحد إلا بناء على قانون صادر قبل ارتكاب الجريمة ومطبق على نحو قانوني ".


ويتبنى دستورالولايات المتحدة الأمريكية ما يعرف بـ " شرط الوسائل القانونية السليمة "، فقد جاء في جانبه الموضوعي من خلال التعديل الرابع عشر للدستور الأمريكي الذي تم اقتراحه في 18 يونية لعام 1866 وتم التصديق عليه في 9 يوليو من عام 1868، وقرر في فقرته الأولى أن:

" جميع الأشخاص المولودين في الولايات المتحدة أو المتجنسين بجنسيتها والخاضعين لسلطانها يعتبرون من مواطني الولايات المتحدة ومن مواطني الولاية التي يقيمون فيها.

ولا يجوز لأية ولاية أن تضع أو تطبق أي قانون ينتقص من امتيازات أو حصانات مواطني الولايات المتحدة. كما لا يجوز لأية ولاية أن تحرم أي شخص من الحياة أو الحرية أو الممتلكات دون مراعاة الإجراءات القانونية الأصولية. ولا أن تحرم أي شخص خاضع لسلطانها من المساواة في حماية القوانين ".


ويرجع الفضل في صياغة مبدأ الشرعية الجنائية الصياغة الحديثة إلى الماركيز الإيطالي " شيزاري دي بكاريا " صاحب الكتاب الشهير " الجرائم والعقوبات " الذي أصدره سنة 1764.

فمن بين ما جاء فيه أن " القوانين وحدها هي التي تحدد العقوبات التي تقابل الجرائم ......ولا يستطيع القاضي أن يوقع سواها ".


ويأخذ المبدأ في الوقت الحالي بعداً دولياً، حيث تم النص عليه في الفقرة الأخيرة من المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والفقرة الأولى من المادة (15) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة (7) من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان.


وفي مصر، حرصت الدساتير المصرية المتعاقبة على إيراد مبدأ الشرعية الجنائية ضمن نصوصها ابتداء من دستور1923 وصولاً إلى دستور 2014. بل ان الشارع المصري اعترف بهذا المبدأ منذ صدور القوانين الحديثة، إذ نصت عليه المادة (19) من قانون العقوبات الصادر سنة 1882حين قررت أن:

" يكون العقاب على الجنايات والجنح والمخالفات على حسب القانون المعمول به في وقت ارتكابها "، وهذا النص هو الذي أصبح - بعد تعديل في صياغته - المادة الخامسة من قانون العقوبات الحالي.


مبدأ الشرعية الجنائية في القانون الفرنسي:


وعلى الرغم من عدم النص على هذا مبدأ الشرعية الجنائية في الدستور الفرنسي القديم، فقد أكد الفقه الجنائي قيمته الدستورية على أساس أنه جزء من القانون العام العرفي في فرنسا. وهو قانون أسمى من التشريع ذاته لا يمكن المساس به.


كما انتهى العميد " ديجيه " إلى النتيجة ذاتها اعتماداً على أن إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 قد أكد قيمته الدستورية مع جميع المبادئ المترتبة عليه.


وجاء كل من دستوري عام 1946 وعام 1958 ليتأكد بصفة رسمية - في مقدمة كل منهما - أن إعلان عام 1789 سالف الذكر يحتل مكاناً رفيعاً في قمة البناء القانوني الفرنسي، ويأخذ موقع القلب من " الكتلة الدستورية " التي تحتوي على الحقوق والحريات التي تتمتع بالقيمة الدستورية.


وقد أكد المجلس الدستوري الفرنسي، منذ حكمه المهم الصادر في 16 يوليو عام 1971 هذا المعنى، ومارس رقابته الدستورية للتحقق من مطابقة التشريع لهذا المبدأ الدستوري. ثم تواترت أحكام المجلس الدستوري الفرنسي التي أكدت المبدأ، ووضعته في مقدمة مبادئ الشرعية الجنائية.


كما أكد المجلس الدستوري أنه لا يمكن أن يكون هناك أي تعهد أو اتفاق دولي يتم بمقتضاه تجاهل مبدأ الشرعية الجنائية.


وقد كان الدستور الفرنسي أكثر تحديداً ووضوحاً من غيره في شأن تحديد الاختصاص التشريعي بإصدار نصوص التجريم والعقاب، بحيث يحدد التشريع القواعد المتعلقة بالجنايات والجنح والعقوبات المطبقة عليها وفقاً لنص المادة (34) من الدستور الفرنسي.


في حين تتولى اللوائح تحديد المخالفات فقط ووضع العقوبات المقررة لها. أخذاً في الاعتبار؛ أن عقوبات المخالفات لا تنطوي على عقوبات سالبة للحرية (حبس) وفقاً لقانون العقوبات الفرنسي الجديد لسنة 1992.


أما في النظام المصري، ووفقاً لنصوص الدستور، فما يصلح لأن يكون مصدراً للتجريم والعقاب، لا يخرج عن أحد المصادر الآتية:

  1. القانون الصادر عن مجلس النواب، وفقاً لاختصاصه بسن القوانين بمقتضى نص المادة (101) من الدستور. " وهو الأصل العام ".
  2. القوانين الصادرة عن رئيس الجمهورية بمقتضى سلطته التشريعية وفقاً لنص المادة (123) من الدستور.
  3. القوانين التي يصدرها لمواجهة أوضاع طارئة في غيبة مجلس النواب بمقتضى نص المادة (156) من الدستور، والأوامر التي يصدرها رئيس الدولة بناء على نص المادة الثالثة من القانون رقم (162) لسنة 1958 بشأن إعلان حالة الطوارئ.
  4. اللوائح التي تصدر عن السلطة التنفيذية تنفيذاً لأحكام القوانين، بمقتضى نصوص المواد        (172،171،170) من الدستور، والتي قد تضع تفصيلات لقواعد التجريم والعقاب التي  تظهر - أحياناً - بصورة عامة في التشريع.
  5. اللوائح التي تصدرها جهات الإدارة المركزية واللامركزية وفقاً لنص المادة (375) من قانون العقوبات.

وحصر مصادر التجريم والعقاب على النحو السابق، ينبع من خطورة قواعد التجريم والعقاب وما يمكن أن يفضي إليه الوقوع تحت قبضتها من عواقب غير محمودة، فضلاً عن أهمية القيم والمصالح التي يضطلع قانون العقوبات بحمايتها.


فالقيم الجوهرية التي يصدر القانون الجنائي لحمايتها، لا يمكن بلورتها إلا من خلال السلطة التشريعية التي انتخبها المواطنون لتمثيلهم، وتعبير هذه السلطة عن إرادتهم يقتضي أن تكون بيدها سلطة التقرير في شأن تحديد الأفعال التي يجوز تأثيمها وعقوباتها، لضمان مشروعيتها.


مبررات ودعائم مبدأ الشرعية الجنائية:


يرتكز مبدأ الشرعية الجنائية على عدة دعائم تؤيد ضرورة اعتناقه، ففضلاً عن تحقيق الردع العام بالإعلان المسبق عما يحظره المشرع، يعد المبدأ بكل أبعاده ضمانة كبرى للأفراد في مواجهة السلطة العامة.


ويحافظ على حقوقهم وحرياتهم ضد تجريم غير منضبط أو غير معلوم، أو تَقرَّر ليعاقبهم عن أفعال وقعت في الماضي بالمخالفة لأصل الإباحة.


كما أن اعتبارات منطقية تدعم المبدأ، إذ يقضي المنطق بأن يكون ضبط سلوك الأفراد مسبوقاً حتماً بوضع قاعدة للسلوك تبين لهم التصرف المطلوب الابتعاد عنه أو القيام به.


ومؤدى هذه الفكرة في المجال الجنائي ضرورة أن ينذر المشرع قبل أن يعاقب، أو أن يحذر قبل أن يضرب، وهو ما يتكفل به مبدأ الشرعية.


ويرتب مبدأ الشرعية الجنائية مجموعة من النتائج التي يجب على كافة سلطات الدولة العمل على تحقيقها، يجمع هذه النتائج الترابط فيما بينها، ويترتب على الإخلال بأحدها مد هذا الخلل إلى مبادئ أخرى جديرة بالتحقق.


التزامات السلطة التشريعية بمقتضى مبدأ الشرعية الجنائية:


وبيان ذلك أن: السلطة التشريعية عليها أن تضع بنفسها نصوص التجريم والعقاب، ولا يسوغ لها - كأصل عام - التخلي عن هذا الاختصاص إلا في أضيق الحدود التي يقررها الدستور ذاته.


وأن تُصدر نصوصاًقانونية واضحة في صياغتها، تكفل إيصال خطاب المشرع للأفراد بشكل كامل، وتبصرهم بواجباتهم التي يفرضها نص التجريم والعقاب، ولا يتعدد بشأنها التأويل، ولا تضطر القاضي الجنائي أن يسلك طريق التفسير.


كما أن نصوص التجريم والعقاب يجب أن تكون محددة في مضمونها، بحيث تشتمل على أركان الجريمة التي تحتويها تفصيلاً وأن تستوفي كافة العناصر المكونة لها، بالإضافة إلى تحديد العقوبة التي يقررها المشرع على ارتكاب الجريمة تحديداً كاملاً من حيث النوع والكم.


فبهذا التحديد يتحقق الردع العام، وتبصير الأفراد بما سوف يتعرضون له جراء انتهاك القاعدة الجنائية، وهذا التحديد هو الذي يغلق باب القياس لدى القاضي الجنائي في مواد التجريم والعقاب.


ويفرض مبدأ الشرعية الجنائية أخيراً على السلطة التشريعية عدم إصدار نصوص للتجريم والعقاب ينسحب أثرها إلى الماضي، لتحاسب الأفراد على وقائع سابقة على صدورها بالمخالفة لقاعدة أن " الأصل في الأشياء الإباحة والاستثناء هو التجريم ".


وذلك لغلق باب واسع للافتئات على حقوق وحريات الأفراد حال إقرار التجريم والعقاب بأثر رجعي، فلا يسوغ انصراف أثر نصوص التجريم والعقاب إلى وقائع سابقة على صدورها إلا لصالح المتهم، إذ لا يصطدم ذلك بمبدأ الشرعية الجنائية،

كما يعلن عن تغير في السياسة الجنائية للمشرع تجاه هذا التجريم، مما يقتضي تصحيح وضع المتهم، والعودة إلى أصل البراءة.


التزامات السلطة التنفيذية بمقتضى مبدأ الشرعية الجنائية:


كما يفرض مبدأ الشرعية الجنائية على السلطة التنفيذية التزام حدود الحالات التي تضطلع فيها بممارسة قدر من السلطة التشريعية بناء على تفويض القانون لها في ذلك، سواء لتفصيل ما ورد عاماً من قواعد القانون، أو لبيان بعض الأمور التي تحتاج إلى التخصص من جانب السلطة التنفيذية.


فهذا التفويض مصدره الدستور الذي قرر مبدأ الشرعية الجنائية وقرر حصر مصادر التجريم والعقاب في نص القانون.


لذلك؛ فإنه على السلطة التنفيذية التزام حدود التفويض الممنوح لها من التشريع، وعدم تجاوز حدود هذا التفويض، لأنها تمارس التشريع وفقاً " لسلطة استثنائية " لا يجوز التوسع فيها، فليس لها إصدار قواعد التجريم والعقاب ابتداء، أو تعديل النطاق التشريعي للتجريم والعقاب الوارد بالقانون.


التزامات السلطة القضائية بمقتضى مبدأ الشرعية الجنائية:


ويفرض مبدأ الشرعية الجنائية على عاتق القاضي الجنائي الالتزام " الكامل " بنص التجريم والعقاب، وعدم إجراء أي تعديل على نطاقه بأي صورة ولأي سبب كان.

فعليه الالتزام بنموذج التجريم الوارد بالنص ومطابقته على الواقعة المعروضة عليه مطابقة تامة، دونما مد نطاق هذا النص إلى أفعال أخرى قد تتشابه معه أو تتحد معه في علة التجريم.


فحال وجد القاضي أن الفعل الموجود بالواقعة المعروضة عليه لا يخضع لنص تجريم، فليس له إلا أن يحكم بالبراءة. كما أنه علي القاضي توقيع العقوبات المنصوص عليها بالقاعدة التشريعية الجنائية بدقة، مع الالتزام بالحدين الأدنى والأقصى للعقوبة المقررة.


فلا يجوز له سد أي نقص تشريعي قد يتراءى له، حال خلو نص تجريم من بيان العقوبة المترتبة على مخالفته. صحيح أن القاضي يملك تفريد العقاب وفقاً للسياسة العقابية للمشرع بصور قد يختلف معها تنفيذ العقوبة.


بيد أن هذا التفريد بكل صوره لا يخرج عن إطار النص الذي يقرر مثل هذا التفريد، الذي هو في حقيقته التزام بالنص وتفعيل له.


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -