العلاقة بين الدستور وقانون العقوبات القسم الخاص I التجريم الدستوري
العلاقة بين الدستور والقسم الخاص من قانون العقوبات:
يمكن القول بأن العلاقة بين الدستور
والقسم الخاص من قانون العقوبات محدودة نوعاً ما، وليست بذات العمق الذي تتصف
به علاقة الدستور بالقسم العام، ويرجع ذلك إلى اختلاف طبيعة القسم الخاص عن نظيره
العام داخل قانون العقوبات.
ففي حين يضم القسم العام القواعد
القانونية التي تحكم الجرائم الجنائية والعقوبات المقررة لها بشكل عام، يحدد القسم
الخاص من قانون العقوبات أوصاف إجرامية واقعية محددة، ويبين العناصر المادية
والمعنوية لكل وصف منها، ويستظهر مجاله، ويبين العقوبة المقررة له.
لذا؛ فإن قواعد القسم الخاص من
قانون العقوبات لا يمكن أن تشتمل على مبادئ عامة يتصور أن ترتقي إلى مستوى
المبادئ الدستورية، وذلك لغلبة الطابع الفني البحت على أحكامها، من حيث تناولها
لأفعال معينة بالتجريم والعقاب.
العلاقة بين الدستور وقانون العقوبات القسم الخاص I التجريم الدستوري |
وبالتالي، تأخذ العلاقة بين الدستور
والقسم الخاص من قانون العقوبات أحد طريقين: إما أن يقرر الدستور تجريم فعل
معين بحيث ينص على تجريمه في مواد الدستور، تاركاً لقانون العقوبات تحديد بنيان الجريمة القانوني التي تقع بهذا الفعل ووضع العقوبة المقررة له.
أو أن يرد بالدستور بعض النصوص التي
تعد أسباباً للإباحة ضد النطاق العام لنصوص قانون العقوبات، وذلك لخلق المجال
المناسب لبعض المبادئ الدستورية الأخرى الجديرة بالمراعاة.
التجريم الدستوري:
قد يرى المشرع الدستوري أن هناك مجموعة
من الأفعال تنطوي على قدر بالغ من الجسامة والخطورة، تدفعه إلى تجريمها بمقتضى
نصوص الدستور، إما لكونها تمثل تهديداً بالغاً لمبادئ الدستور، أو لتوافر ضرورة
اجتماعية أكيدة ودائمة لتجريم مثل هذه الأفعال.
وفي ذلك إلزام للمشرع العادي بضرورة
تجريم هذه الأفعال إن لم تكن مُجَرَّمة، والحفاظ عليها داخل دائرة التجريم
مستقبلاً، حال كونها مُجَرَّمة بالفعل. ويمكن تناول حالات التجريم الدستوري من
خلال التقسيم التالي:
التجريم الدسـتوري وفقاً
لدستور1971.
التجـريم الدستوري وفقاً
لدستور2014.
أولاً: التجريم الدستوري وفقاً لدستور1971
حرص الدستور المصري لسنة 1971 على حظر
عدد من نماذج السلوك، وجعل منها جرائم جنائية، ليتحقق بذلك التجريم الدستوري لهذه
الأفعال. كما استمر هذا التجريم وفقاً لنصوص دستور2014، إعلاناً عن رغبة المشرع
الدستوري في بقاء هذه الأفعال داخل نطاق التجريم.
ويمكن سرد حالات التجريم الدستوري
المشار إليها على النحو التالي:
الجريمة الأولى: تجريم فرض العمل جبراً على المواطنين:
تقضي المادة (12) من الدستور بأن:
" العمل حق، وواجب، وشرف تكفله الدولة، ولا يجوز إلزام أي مواطن بالعمل جبراً، إلا بمقتضى قانون، ولأداء خدمة عامة، لمدة محددة، وبمقابل عادل، ودون إخلال بالحقوق الأساسية للمكلفين بالعمل ".
وتنص المادة (117) من قانون العقوبات
على أن:
" كل موظف عام استخدم سخرة عمالاً في عمل لإحدى الجهات المبينة في المادة 119 أو احتجز بغير مبرر أجورهم كلها أو بعضها يعاقب بالسجن المشدد. وتكون العقوبة الحبس إذا لم يكن الجاني موظفاً عاماً ".
وتستهدف النصوص السابقة حماية حرية
العمل، وحق الإنسان في ألا يجبر على ممارسة عمل ما ضد إرادته كمبدأ عام، ما لم
تقيد تلك الحرية وفقاً للقانون.
إذ يشير نص الدستور إلى سبب للإباحة
يرد على هذا التجريم، هو أن يكون فرض العمل " بمقتضى قانون ولأداء خدمة عامة
وبمقابل عادل".
وقد اختُتِمت المادة (12) من الدستور
بالتأكيد على أنه حتى في حالة الإلزام بالعمل الجبري للمصلحة العامة نظير مقابل
عادل لمدة محددة، أن يتم ذلك " دون إخلال بالحقوق الأساسية للمكلفين بالعمل
" وهي عبارة أضيفت إلى المبدأ في دستور 2014.
ويتضح أن المادة (117) من قانون
العقوبات قد ترجمت المبدأ الدستوري في صورتين كلتاهما مُجرَّم جنائياً:
الصورة الأولى: تتعلق باستخدام العمال بطريق السخرة
أي بإلزام الأفراد بالعمل دونما سند من القانون يبرر هذا الإلزام، وتتحقق الجريمة
حتى لو منح الجاني المستخدمين سخرة أجراً لقاء عملهم.
أما الصورة الثانية: فتتحقق باحتجاز أجور العمال كلها أو
بعضها على الرغم من استحقاقهم لها، وغني عن البيان، أنه يشترط لقيام هذه الجريمة
أن يكون حبس أجور العاملين غير مبرر قانوناً.
الجريمة الثانية: جريمة الغدر:
تنص المادة (38) من الدستور على أن:
" ......، لا يكون إنشاء الضرائب العامة، أو تعديلها، أو إلغاؤها، إلا بقانون، ولا يجوز الإعفاء منها إلا في الأحوال المبينة في القانون. ولا يجوز تكليف أحد أداء غير ذلك من الضرائب، أو الرسوم، إلا في حدود القانون ".
وتقضي المادة (114) من قانون العقوبات
بأن:
" كل موظف عام له شأن في تحصيل الضرائب أو الرسوم أو العوائد أو الغرامات أو نحوها، طلب أو أخذ ما ليس مستحقاً أو ما يزيد على المستحق مع علمه بذلك يعاقب بالسجن المشدد أو السجن ".
وقد وضعت المادة (38) من الدستور مبدأً
دستورياً يقضي بأن: " لا ضريبة إلا بقانون "، وتكفلت المادة
(114) من قانون العقوبات بتوفير الحماية الجنائية للمبدأ.
ويرمي المبدأ إلى حماية الحقوق المالية
للأفراد في مواجهة تعسف واستغلال العاملين باسم الدولة عن طريق الجباية غير
المشروعة للأموال باسم المصلحة العامة، وهو ما حرص الدستور على مجابهته، وسانده في
ذلك قانون العقوبات بتجريمه مجرد الطلب لما هو ليس مستحق.
ولم يشترط نص المادة (114) من قانون
العقوبات حصول الجاني على منفعة أو أخذ ما ليس مستحقاً بالفعل سواء لنفسه أو
للدولة، وإنما تقوم الجريمة بمجرد طلب ما هو ليس مستحق من ضرائب أو عوائد أو رسوم
أو غرامات أو نحوها، باسم الدولة، خارج حدود القانون مع العلم بذلك.
الجريمة الثالثة: الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة:
نصت المادة (57) من الدستور على أن:
" للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يبينها القانون ".
وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا
أنه:
" ثمة مناطق من الحياة الخاصة لكل فرد تمثل أغواراً لا يجوز النفاذ إليها، وينبغي دوماً - ولاعتبار مشروع - ألا يقتحمها أحد ضماناً لسريتها، وصوناً لحرمتها، ودفعاً لمحاولة التلصص عليها أو اختلاس بعض جوانبها، وبوجه خاص من خلال الوسائل العلمية الحديثة التي بلغ تطورها حداً مذهلاً، وكان لتنامي قدراتها على الاختراق أثر بعيد على الناس جميعهم حتى في أدق شئونهم ".
وتفعيلاً للنص الدستوري سالف الذكر،
تقضي المادة (309 مكررا) من قانون العقوبات بأن:
" يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة كل من اعتدى على حرمة الحياة الخاصة للمواطن، وذلك بأن ارتكب أحد الأفعال الآتية في غير الأحوال المصرح بها قانوناً أو بغير رضاء المجني عليه: (أ) استرق السمع أو سجل أو نقل عن طريق جهاز من الأجهزة أياً كان نوعه محادثات جرت في مكان خاص أو عن طريق التليفون. (ب) التقط أو نقل بجهاز من الأجهزة أياً كان نوعه صورة شخص في مكان خاص. فإذا صدرت الأفعال المشار إليها في الفقرتين السابقتين أثناء اجتماع على مسمع أو مرأى من الحاضرين في ذلك الاجتماع، فإن رضاء هؤلاء يكون مفترضاً. ويعاقب بالحبس الموظف العام الذي يرتكب أحد الأفعال المبينة بهذه المادة اعتماداً على سلطة وظيفته. ويحكم في جميع الأحوال بمصادرة الأجهزة وغيرها مما يـكون قد اسـتخدم في الـجريمة، كـما يحـكم بـمحو التسجيلات المتحصلة عن الجريمة أو إعدامها ".
كما تقضي المادة (309 مكرر(أ)) من
قانون العقوبات بأن:
" يعاقب بالحبس كل من أذاع أو سهل إذاعة أو استعمل ولو في غير علانية تسجيلاً أو مستنداً متحصلاً عليه بإحدى الطرق المبينة بالمادة السابقة، أو كان ذلك بغير رضاء صاحب الشأن. ويعاقب بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات كل من هدد بإفشاء أمر من الأمور التي تم التحصل عليها بإحدى الطرق المشار إليها لحمل شخص على القيام بعمل أو الامتناع عنه. ويعاقب بالسجن الموظف العام الذي يرتكب أحد الأفعال المبينة بهذه المادة اعتماداً على سلطة وظيفته. ويحكم في جميع الأحوال بمصادرة الأجهزة وغيرها مما يكون قد استخدم في الجريمة أو تحصل عنها، كما يحكم بمحو التسجيلات المتحصلة عن الجريمة أو إعدامها ".
وتهدف المادة (37) من الدستور، وكذلك
نصوص المواد (309 مكرر، 309 مكرر(أ))، إلى حماية أحد أهم حقوق الفرد في دولة القانون وهو حقه في سرية حياته الخاصة وحرمتها، وإحاطتها بسياج قوي من الخصوصية لا
يسوغ اختراقه إلا في حدود ضيقة جداً، ووفقاً لأحكام القانون.
وأهم مظهرين لهذه الحياة أراد الشارع
حمايتهما هما: ما يدور فيها من حديث، وما يتخذه الشخص من أوضاع اعتماداً على أنه
لا يطلع عليه أحد.
ومؤدى ذلك أن للتجريم موضوعين، هما:
الحديث والصورة. فاشتملت المادة (309 مكرر) من قانون العقوبات على جريمتي الحصول
على الحديث، والحصول على الصورة. في حين جاءت المادة (309 مكرر(أ)) بجريمتي
استعمال التسجيل أو المستند، والتهديد بإفشاء فحوى التسجيل أو المستند.
وإضفاءً لأكبر قدر من الحماية على مبدأ
حرمة الحياة الخاصة للمواطنين، قررت المادة (99) من الدستور أن:
" كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين، وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم، وللمضرور إقامة الدعوى الجنائية بالطريق المباشر".
الجريمة الرابعة: جريمة امتناع الموظف العام عن تنفيذ الأحكام القضائية أو تعطيل تنفيذها:
تنص المادة (100) من الدستور على أن:
" تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب، وتكفل الدولة وسائل تنفيذها على النحو الذي ينظمه القانون. ويكون الامتناع عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها من جانب الموظفين العموميين المختصين، جريمة يعاقب عليها القانون، وللمحكوم له في هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة ".
وتقضي المادة (123) من قانون العقوبات
بأن:
" يعاقب بالحبس والعزل كل موظف عمومي استعمل سلطة وظيفته في وقف تنفيذ الأوامر الصادرة من الحكومة أو أحكام القوانين واللوائح أو تأخير تحصيل الأموال والرسوم أو وقف تنفيذ حكم أو أمر صادر من المحكمة أو من أية جهة مختصة. كذلك يعاقب بالحبس والعزل كل موظف عمومي امتنع عمداً عن تنفيذ حكم أو أمر مما ذكر بعد مضي ثمانية أيام من إنذاره على يد محضر إذا كان تنفيذ الحكم أو الأمر داخلاً في اختصاص الموظف ".
وعلة التجريم الوارد بالنصوص السابقة
كما ذكرتها محكمة النقض: تكمن في رغبة المشرع في القضاء على ما كثر منه الشكوى من
امتناع الوزراء المسئولين في الوزارات المختلفة عن تنفيذ الأحكام التي يصدرها مجلس
الدولة أو تراخيهم في تنفيذها.
الأمر الذي لم يكن يُخضع الموظف
المسئول عن التنفيذ إلا للمسئولية المدنية فقط. فالمبدأ الوارد بالمادة (100) من
الدستور، مطبقاً بالمادة (123) من قانون العقوبات؛ يوفر الحماية اللازمة لاحترام
أحكام القضاء التي هي حكم القانون الواجب إنزاله على ما تشهده أروقة المحاكم من
نزاعات.
والتجريم الوارد بالمادة (123) من
قانون العقوبات يشتمل على صورتين:
أولهما: امتناع الموظف العام المختص
بتنفيذ الحكم القضائي عن تنفيذ الحكم، بموقف سلبي من جانب الموظف، وثانيهما: تعطيل
تنفيذ الحكم القضائي وذلك بمسلك إيجابي يتضمن فعلاً يحول دون اتخاذ الإجراءات
اللازمة لتنفيذ الحكم.
ولا شك في أنها جريمة عمدية، وضع
المشرع شرطاً للعقاب عليها يتمثل في إنذار المختص بتنفيذ الحكم رسمياً على يد
محضر، ثم مرور مدة ثمانية أيام دون اتخاذ المختص بتنفيذ الحكم أي إجراءات في سبيل
تنفيذه.
ثانياً: التجريم الدستوري وفقاً لدستور2014
توسع دستور2014 بصورة واضحة في إيراد
عدد من نماذج السلوك التي أوجب تجريمها جنائياً مقارنة بدستور1971.
فبالإضافة إلى الأفعال التي كانت
مُجَرَّمة بمقتضى نصوص دستور1971، تم إدخال بعض الجرائم الواردة بقانون العقوبات
أو بتشريعات جنائية خاصة إلى دائرة الأفعال المجرَّمة بمقتضى نصوص الدستور، بل
وأورد دستور2014 تجريماً لبعض الأفعال التي لم تتم معالجتها تشريعياً بصورة كاملة.
ويمكن تناول حالات التجريم الدستوري
التي وردت لأول مرة بنصوص دستور2014 على النحو التالي:
الـجريمة الأولى: جـريمة الامتـناع عن تقـديم العلاج في حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة:
نصت المادة (18) من الدستور في فقرتها
الرابعة على أن:
" يجرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان في حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة ".
وقد جاءت الاستجابة التشريعية للمادة
(18) من الدستور بمقتضى المادة الأولى من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم (1063) لسنة
2014، والتي جاء نصها كالتالي:
" تلتزم جميع المنشآت الطبية الجامعية والخاصة والاستثمارية المرخص بإنشائها طبقاً لأحكام القانون رقم (51) لسنة 1981 والمستشفيات التابعة لشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام بتقديم خدمات العلاج لحالات الطوارئ والحوادث بالمجان لمدة 48 ساعة، يخير بعدها المريض أو ذويه في البقاء بالمنشأة على نفقته الخاصة بالأجور المحددة المعلن عنها أو النقل الآمن لأقرب مستشفى حكومي، على أن تتحمل الدولة تكاليف العلاج من موازنة العلاج على نفقة الدولة، وفي جميع الأحوال لا يجوز نقل المريض إلا بعد التنسيق مع غرف الطوارئ المركزية أو الإقليمية المختصة أو غيرها، لتوفير المكان المناسب لحالته الصحية ".
وأعقب ذلك؛ صدور قرار وزير الصحة
والسكان رقم (445) لسنة 2014، بشأن القواعد التنفيذية لقرار رئيس مجلس الوزراء رقم
(1063) لسنة 2014. وجاء في مادته العاشرة والأخيرة أنه:
" في حالة عدم الالتزام بالأحكام
الواردة بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم (1063) لسنة 2014، يعاقب المخالف طبقاً لنصوص
المواد (11،10) من القانون رقم (51) لسنة 1981 المعدل بالقانون رقم (153) لسنة
2004 بشأن تنظيم المنشآت الطبية ".
وتتحدث المواد (11،10) من القانون سالف
الذكر عن إنذار المنشأة الطبية في حال وجود مخالفة لتصحيحها خلال ثلاثين يوماً،
بالإضافة إلى غلق المنشأة الطبية بقرار من المحافظ المختص في حالة المخالفات
الجسيمة.
والواقع أن المعالجة التشريعية للمبدأ
الدستوري الجديد، كانت دون المستوى، ولم تكفل للمادة (18) من الدستور آليات تنفيذ
تليق بمكانتها، بل وأعدمتها القيمة العملية.
فبداية؛ كان من الأحرى أن يصدر النص
القانوني المطبق للمادة (18) من الدستور - بالنظر إلى أهمية المبدأ الوارد بها -
من خلال إضافة مادة تشريعية إلى قانون تنظيم المنشآت الطبية، وليس من خلال قرارات
صادرة عن السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة.
أما السبب الحقيقي في إخفاق قرار رئيس
مجلس الوزراء رقم (1063) لسنة 2014 في تفعيل نص المادة (18) من الدستور، هو خلو
القرار من جزاء حقيقي يترتب على مخالفة الالتزام الوارد بمادته الأولى، مما جرد
هذا القرار من أي قوة فعلية على أرض الواقع.
وحتى بعد صدور قرار وزير الصحة رقم
(445) لسنة 2014 بالقواعد المنفذة لقرار رئيس مجلس الوزراء رقم (1063) لسنة 2014؛
أحال لعقوبات الإنذار وإمكانية إغلاق المنشأة الطبية وفقاً لنصوص قانون (51) لسنة
1981 بشأن تنظيم المنشآت الطبية.
وهى عقوبات معقدة في إجراءاتها وغير
رادعة وغير فعالة، ولذلك؛ تم رصد العديد من المخالفات التي قامت بها المنشآت
الطبية الخاصة والحكومية على حد السواء.
من حيث الامتناع عن تنفيذ القرار
المذكور، والإحجام عن تقديم العلاج في حالات الطوارئ والخطر على الحياة لعدم قدرة
صاحب الحالة على تحمل نفقات الإسعاف والعلاج، بل وترتب على ذلك بعض حالات الوفاة
التي تم توثيقها إعلامياً.
وترتيباً على ما تقدم؛ فإن المبدأ
الدستوري الذي يقضي بتجريم الامتناع عن تقديم العلاج في حالات الطوارئ والخطر على
الحياة وفقاً للمادة (18) من الدستور، في حاجة إلى إعادة المعالجة التشريعية
بالصورة التي تكفل الحماية الحقيقية للمبدأ، ووضع آليات قوية لتنفيذه.
الجريمة الثانية: جريمة الاعتداء على الرقعة الزراعية:
نصت المادة (29) من الدستور على أن:
" الزراعة مقوم أساسي للاقتصاد الوطني. وتلتزم الدولة بحماية الرقعة الزراعية وزيادتها، وتجريم الاعتداء عليها، ....".
ونظراً لكونها أحد أهم مقومات الاقتصاد
القومي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي للدولة من المنتجات الزراعية، فقد حرص المشرع
الدستوري على تقرير التزام الدولة باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للحفاظ على
الرقعة الزراعية وتنميتها، ومجابهة كافة صور الاعتداء عليها والتقليص من مساحتها.
لاسيما، وأن الدولة قد تكبدت خسائر
فادحة جراء الاعتداءات المتكررة على الرقعة الزراعية خلال العقود الأخيرة، وشهدت
انخفاضاً كبيراً في ناتج الزراعة كعامل اقتصادي رئيسي بالدولة.
وقد حاولت نصوص قانون الزراعة رقم (53)
لسنة 1966 المعدل بالقانون رقم (118) لسنة 1983؛ التصدي لصور الاعتداء على الأراضي
الزراعية على النحو التالي:
جرمت المادة (150) من القانون المذكور
تجريف الأراضي الزراعية أو نقل الأتربة المتحصلة منها واستخدامها في غير أغراض
الزراعة، وعاقبت المادة (154) على ذلك بالحبس وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه
ولا تزيد على خمسين ألف جنيه عن كل فدان أو جزء منه، من الأرض موضوع المخالفة.
كما حظرت المادة (151) على المالك أو
نائبه أو المستأجر أو الحائز للأرض الزراعية بأية صفة ترك الأرض غير منزرعة لمدة
سنة من تاريخ آخر زراعة، أو ارتكاب أي فعل أو امتناع من شأنه تبوير الأرض الزراعية
أو المساس بخصوبتها.
وعاقبت المادة (155) على ذلك بالحبس
وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تزيد على ألف جنيه عن كل فدان أو جزء منه، من
الأرض موضوع المخالفة.
كما حظرت المادة (152) إقامة أي مباني
أو منشآت على الأراضي الزراعية أو اتخاذ أية إجراءات في شأن تقسيم هذه الأراضي
لإقامة مبان عليها.
وعاقبت المادة (156) من قانون الزراعة
رقم (53) لسنة 1966، بعد استبدالها بالقانون رقم (7) لسنة 2018، على مخالفة أحكام
المادة (152) من القانون المذكور أو الشروع فيها؛ بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا
تزيد على خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على خمسة ملايين
جنيه، وتتعدد العقوبة بتعدد المخالفات.
ويلاحظ أن القانون رقم (7) لسنة 2018
قد حمل اتجاهاً متشدداً من جانب المشرع الجنائي في مواجهة جرائم إقامة المباني على
الأراضي الزراعية.
والتي كانت تقرر لها المادة (156) من
قانون الزراعة قبل استبدالها بالقانون رقم (7) لسنة 2018 عقوبة الحبس والغرامة
التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه.
والواقع أن تشديد عقوبة إقامة المباني
على الأراضي الزراعية على النحو السابق كان موفقاً من جانب المشرع الجنائي، بعد
سنوات طويلة من محاربة هذه الجريمة دون جدوى وفقاً لنص المادة (156) من قانون
الزراعة قبل استبدالها على النحو سالف البيان.
الجريمة الثالثة: جريمة التهرب الضريبي:
نصت المادة (38) من الدستور في فقرتها
الأخيرة على أن: " آداء الضرائب واجب، والتهرب الضريبي جريمة ".
وفي ذات الاتجاه، صدر القانون رقم (67)
لسنة 2016 بإصدار قانون الضريبة على القيمة المضافة، مُلغياً - بموجب مادته
الثانية - قانون الضريبة العامة على المبيعات الصادر بالقانون رقم (11) لسنة 1991،
ومعتنقاً نهجاً جديداً أكثر تشدداً وصرامة في التعامل مع جريمة التهرب الضريبي.
فقضت المادة (67) منه بأنه:
" مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد منصوص عليها في أي قانون آخر، يعاقب على التهرب من الضريبة وضريبة الجدول بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تجاوز خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تجاوز خمسين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، ...".
ويتضح من نص المادة المذكورة أن المشرع
قد غير من وصف جريمة التهرب الضريبي التي كانت جنحة معاقباً عليها بالحبس في ظل
القانون رقم (11) لسنة 1991، إلى جناية معاقباً عليها بالسجن بين حد أدنى ثلاث
سنوات وأقصى خمس سنوات وفقا لقانون (67) لسنة 2016.
مدفوعاً من اعتبارات الصالح العام
المتمثلة في الحفاظ على موارد الدولة المالية، والحفاظ على حصيلة الضرائب العامة.
وقد تباينت الآراء بشأن تغيير وصف
جريمة التهرب الضريبي إلى " جناية " على النحو سالف البيان، ونعتقد أن
هذا الاتجاه التشريعي يستحق التوقف، وأن المشرع قد يكون ذهب إلى أبعد مما ينبغي،
وكان من الأوفق الإبقاء على وصف الجنحة بالنسبة لجريمة التهرب الضريبي.
لاسيما؛ وأن درجة الإثم الجنائي لدى
المخالف في هذه الجريمة لا تبرر هذا التشدد التشريعي بإدخال جريمة التهرب الضريبي
ضمن طائفة الجنايات، وكان من الأوفق الاكتفاء بمضاعفة العقوبات المالية على النحو
الذي جاء بالمادة (67) من القانون رقم (67) لسنة 2016، مع الإبقاء على عقوبة الحبس
المقررة للجنح.
الجريمة الرابعة: جريمة الاعتداء على الآثار بالإتجار فيها أو الاعتداء عليها:
تنص المادة (49) من الدستور على أن:
" تلتزم الدولة بحماية الآثار والحفاظ عليها، ورعاية مناطقها، وصيانتها، وترميمها، واسترداد ما استولي عليه منها، وتنظيم التنقيب عنها والإشراف عليه. ويحظر إهداء أو مبادلة أي شيء منها. والاعتداء عليها والاتجار فيها جريمة لا تسقط بالتقادم ".
وقد جاءت المادة المذكورة تعبيراً عن
حرص المشرع الدستوري على مجابهة الاعتداء على الآثار بكافة صوره، نظراً لما يترتب
على ذلك من أضرار بالغة تلحق بالدولة وممتلكاتها وتراثها وتاريخها، فضلاً عن تنامي
معدلات هذه الجريمة بداية من البحث والتنقيب وصولاً إلى البيع والتهريب.
وقد جرَّم المشرع المصري العديد من صور
الاعتداء على الآثار بموجب نصوص القانون رقم (3) لسنة 2010 الصادر بتعديل بعض
أحكام قانون حماية الآثار رقم (117) لسنة 1983، شملت أفعال التهريب والسرقة
والإتجار والاعتداء على الآثار.
وعاقب القانون المذكور بالسجن المشدد
وبالغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على مليون جنيه على تهريب الآثار
خارج البلاد، وعاقب على سرقة الآثار بالسجن والغرامة التي لا تقل عن خمسين ألف
جنيه ولا تزيد على خمسمائة ألف جنيه.
وعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا
تزيد على سبع سنوات وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تزيد عن مائة ألف جنيه
على أعمال هدم الآثار أو إتلافها، وكذلك على أعمال الحفر بقصد الحصول على الآثار
دون ترخيص، كذلك عاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات وبغرامة لا
تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على مائة ألف جنيه على مخالفة أحكام المادة (8) من
القانون التي تجرم الإتجار في الآثار.
ثم تبين للمشرع أن العقوبات الواردة
بالقانون رقم (3) لسنة 2010 لم تكن رادعة بالقدر الكافي، ولم تكفل مواجهة قوية
لكافة صور الاعتداء على الآثار ولاسيما؛ التهريب والاتجار.
فتدخل المشرع بإصدار القانون رقم (91)
لسنة 2018 بتعديل بعض أحكام قانون حماية الآثار رقم (117) لسنة 1983، مقرراً
مضاعفة العقوبات الواردة بالقانون رقم (3) لسنة 2010، وتبنى سياسة عقابية جديدة في
شأن جرائم الاعتداء على الآثار.
فعاقب قانون (91) لسنة 2018 على تهريب
الآثار خارج البلاد بالسجن المؤبد والغرامة التي لا تقل عن مليون جنيه ولا تزيد
على عشرة ملايين جنيه.
كما عاقب بالسجن المؤبد والغرامة التي
لا تقل عن مليون جنيه ولا تزيد على خمسة ملايين جنيه على سرقة الآثار أو سرقة
أجزاء منها، وعاقب بالسجن المشدد على إخفاء الآثار تمهيداً لتهريبها، كما عاقب
بالسجن ما بين ثلاث سنوات إلى سبع سنوات والغرامة التي لا تقل عن خمسمائة ألف جنيه
ولا تزيد على مليون جنيه، على القيام بأعمال الحفر بقصد الحصول على الآثار بدون
ترخيص، وأعمال هدم أو إتلاف أو تشويه الآثار.
وجاءت كافة العقوبات بالقانون (91)
لسنة 2018 مضاعفة عن مثيلتها بقانون (3) لسنة 2010، بالنسبة لكافة صور الاعتداء
على الآثار.
وقد قرر المشرع في المادة (47 مكرر(1))
أن: " جرائم الاعتداء على الآثار أو الاتجار فيها لا تسقط بالتقادم ".
وذلك تنفيذاً للتوجيه الدستوري الوارد بالمادة (49) من الدستور، والذي يقضي بعدم
سقوط مثل هذه الجرائم بالتقادم.
وهو تدخل موفق من المشرع بلا جدال، بل
وكان من الأحرى أن تكون استجابة المشرع للمبدأ الدستوري أسرع مما كانت عليه.
الجريمة الخامسة: جريمة التمييز والحض على الكراهية:
تنص المادة (53) من الدستور في فقرتها
الثانية على أن:
" المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر. والتمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون ".
وفي ذات الاتجاه، تقضي المادة (161
مكرراً) من قانون العقوبات بأن:
" يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن ثلاثين ألف جنيه ولا تتجاوز خمسين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من قام بعمل أو بالامتناع عن عمل يكون من شأنه إحداث التمييز بين الأفراد أو ضد طائفة من طوائف الناس بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة وترتب على هذا التمييز إهدار لمبدأ تكافؤ الفرص أو العدالة الاجتماعية أو تكدير السلم العام. وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر والغرامة التي لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تتجاوز مائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا ارتكبت الجريمة المشار إليها في الفقرة الأولى من هذه المادة من موظف عام أو مستخدم عمومي أو أي إنسان مكلف بخدمة عمومية ".
كما عاقبت المادة (176) من قانون
العقوبات على التحريض على ارتكاب جريمة التمييز والحض على الكراهية وذلك بقولها:
" يعاقب بالحبس كل من حرض بإحدى الطرق المتقدم ذكرها على التمييز ضد طائفة من طوائف الناس بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة إذا كان من شأن هذا التحريض تكدير السلم العام ".
ويقصد بالطرق المتقدم ذكرها: الطرق
الواردة بالمادة (171 عقوبات) وهي " كل قول أو صياح جهر به علناً أو فعل أو
إيماء صدر علناً أو بكتابة أو رسوم أو صور أو صور شمسية أو رموز أو أية طريقة أخرى
من طرق التمثيل تجعلها علنية أو بأية وسيلة أخرى من وسائل العلانية ....".
ولا شك أن النصوص الدستورية والقانونية
السابقة تحاول الإحاطة بجريمة التمييز والحض على الكراهية داخل الدولة، لما يعقبها
من أضرار جسيمة بالصالح العام، وما قد ترتبه من نتائج بالغة السوء.
وذلك بداية من تهديد استقرار المجتمع
وتماسكه وانتهاء بالاحتكاكات العنيفة التي قد تحدث بين طوائف المجتمع ولاسيما في
أوقات التقلبات السياسية وتناحر الأحزاب والجماعات السياسية، واجتهاد كل فريق
سياسي في تشويه الآخر بكل الوسائل المتاحة.
الجريمة السادسة: جريمة إساءة معاملة المحبوسين أو المقبوض عليهم:
تقضي أحكام المادة (55) من الدستور
بأن:
" كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنياً أو معنوياً، ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا في أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانياً وصحياً، وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة. ومخالفة شيء من ذلك جريمة يعاقب مرتكبها وفقاً للقانون ".
كما نصت المادة (56) من الدستور على
أن:
" ......، تخضع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي، ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر ".
وتقضي المادة (40) من قانون الإجراءات الجنائية رقم (150) لسنة 1951 بأنه:
" لا يجوز القبض على أي إنسان أو حبسه إلا بأمر من السلطات المختصة بذلك قانوناً، كما تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان، ولا يجوز إيذائه بدنياً أو معنوياً ".
وقد عالجت المادة (126) من قانون
العقوبات الصورة الأكثر شيوعاً في شأن تعذيب المقبوض عليهم أو المتهمين، وهي
التعذيب بغرض حمل المتهم على الاعتراف، وذلك بقولها:
" كل موظف عام أو مستخدم عمومي أمر بتعذيب متهم أو فعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف يعاقب بالأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلى عشر سنوات. وإذا مات المجني عليه يحكم بالعقوبة المقررة للقتل عمداً ".
ثم جاء نص المادة (129) من قانون
العقوبات ليجرم استخدام القسوة مع الناس حين قرر أن:
" كل موظف أو مستخدم عمومي وكل شخص مكلف بخدمة عمومية استعمل القوة مع الناس اعتماداً على وظيفته بحيث أنه أخل بشرفهم أو أحدث آلاماً بأبدانهم يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تزيد على مائتي جنيه ".
وعلى الرغم من أن العقوبة الواردة
بالمادة (129) من قانون العقوبات قد تكون في حاجة إلى قدر من التشديد، إلا أن
المشكلة الحقيقية في هذا الشأن تكمن في التطبيق العملي للمواد سالفة الذكر.
فالنصوص الدستورية والتشريعية السالف
بيانها على قدر لا بأس به من الإحكام والوجاهة؛ إلا أن نظرة على الواقع العملي في
مجال معاملة المقبوض عليهم والمتهمين، وما آلت إليه أوضاع أماكن الاحتجاز، قد تكشف
عن قصور في التطبيق وتجاوزات ليست بالقليلة، تستوجب البحث عن سبل تطبيق أكثر
فاعلية لتحقيق المعاملة الإنسانية للمحتجزين على أرض الواقع.
الجريمة السابعة: تجريم الاعتداء على جسد الإنسان بالتشويه أو التمثيل به أو الإتجار بأعضائه:
حرص الدستور للمرة الأولى على تجريم
الاتجار بالأعضاء البشرية ضمن نصوصه، حيث تقضي المادة (60) منه بأن:
" لجسد الإنسان حرمة، والاعتداء عليه، أو تشويهه، أو التمثيل به، جريمة يعاقب عليها القانون. ويحظر الاتجار بأعضائه، .......".
وترجع الحكمة من النص الدستوري سالف
البيان إلى الرغبة في مواجهة انتشار جريمة الإتجار بالأعضاء البشرية في مصر بصورة
مخيفة في السنوات الأخيرة، مما دفع المشرع الدستوري إلى تجريمها بمقتضى نص المادة
(60) من الدستور.
أما المشرع الجنائي، فقد حاول مواجهة
جريمة الإتجار بالأعضاء البشرية من خلال نصوص القانون رقم (5) لسنة 2010 بشأن
تنظيم زرع الأعضاء البشرية، فقد جرمت مادته السادسة الاتجار بالأعضاء البشرية
بقولها:
" يحظر التعامل في أي عضو من أعضاء جسم الإنسان أو جزء منه أو أحد أنسجته على سبيل البيع أو الشراء أو بمقابل أياً كانت طبيعته. وفي جميع الأحوال لا يجوز أن يترتب على زرع العضو أو جزء منه أو أحد أنسجته أن يكتسب المتبرع أو أي من ورثته أية فائدة مادية أو عينية من المتلقي أو من ذويه بسبب النقل أو بمناسبته. كما يحظر على الطبيب المختص البدء في إجراء عملية الزرع عند علمه بمخالفة أي حكم من أحكام الفقرتين السابقتين ".
كما جاءت العقوبات التي قررها القانون
المذكور على مخالفة أحكامه بالمواد من 16 حتى 24 من القانون ما بين السجن المشدد
والغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد عن ثلاثمائة ألف جنيه، والحبس
والغرامة التي لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد عن عشرة آلاف جنيه.
ثم استبدل المشرع العقوبات المقررة على
الجرائم النصوص عليها في القانون رقم (5) لسنة 2010، بمقتضى القرار بقانون رقم
(142) لسنة 2017، مشدداً العقوبات على كافة صور الاتجار بالأعضاء البشرية،
واستبدلت المواد (24،23،20،19،18،17) من القانون رقم (5) لسنة 2010 بأحكام أكثر
تشدداً وصرامة.
ولا شك أن تشدد المشرع في شأن جرائم
الاتجار بالأعضاء البشرية جاء في محله، إذ تعالت الأصوات بضرورة التدخل التشريعي
لمواجهة جرائم الاتجار بالأعضاء البشرية، بعد أن بلغ بها الانتشار حداً غير مسبوق.
الجريمة الثامنة: تجريم كافة صور العبودية والاسترقاق والقهر والاستغلال القسري للإنسان وتجارة الجنس والإتجار بالبشر:
نصت المادة (89) من الدستور على أن:
" تحظر كل صور العبودية والاسترقاق والقهر والاستغلال القسري للإنسان، وتجارة الجنس، وغيرها من أشكال الإتجار في البشر، ويجرم القانون كل ذلك ".
وقد اشتمل النص الدستوري السابق على
مجموعة من الجرائم الخطيرة، التي تُحدِث - حال وقوعها - انهياراً لحقوق الانسان
التي يحرص الدستور على كفالتها، وتحرم الإنسان من حقوقه الأولية في أن يحيا حراً
صاحب إرادة في معيشته، وسلوكه، وعمله، وشأنه الخاص.
وقد ترجم المشرع ذلك النص الدستوري من
خلال نصوص القانون رقم (64) لسنة 2010 بشأن مكافحة الإتجار بالبشر، فنص في مادته
الثانية على أن:
" يُعد مرتكباً لجريمة الإتجار بالبشر كل من يتعامل بأية صورة في شخص طبيعي بما في ذلك البيع أو العرض للبيع أو الشراء أو الوعد بهما أو الاستخدام أو النقل أو التسليم أو الإيواء أو الاستقبال أو التسلم سواء في داخل البلاد أو عبر حدودها الوطنية، إذا تم ذلك بواسطة استعمال القوة أو العنف أو التهديد بهما، أو بواسطة الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع، أو استغلال السلطة، أو استغلال حالة الضعف أو الحاجة، أو الوعد بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا مقابل الحصول علي موافقة شخص علي الاتجار بشخص آخر له سيطرة عليه، و ذلك كله إذا كان التعامل بقصد الاستغلال أياً كانت صوره بما في ذلك الاستغلال في أعمال الدعارة وسائر أشكال الاستغلال الجنسي، و استغلال الاطفال في ذلك، وفي المواد الإباحية أو السخرة أو الخدمة قسراً، أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد، أو التسول، أو استئصال الأعضاء أو الانسجة البشرية، أو جزء منها ".
كما عاقب القانون رقم (64) لسنة 2010
على ارتكاب الأفعال الواردة بمادته الثانية بمقتضى نصوص المواد (6،5) منه، إذ تنص
مادته الخامسة على أن:
" يُعاقب كل من ارتكب جريمة
الاتجار بالبشر بالسجن المشدد وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مائتي
ألف جنيه أو بغرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع أيهما أكبر"، كما شددت
المادة السادسة العقوبة في فروض معينة.
وقد تعالت الأصوات في الآونة الأخيرة
بضرورة رفع العقوبات الواردة بالمواد (6،5) من القانون رقم (64) لسنة 2010، بعد
ارتفاع معدلات الجرائم الواردة بالمادة الثانية منه في مـصر، وبقـائها في حـالة
تـزايد مـستمر.
إضافة إلى المناداة بإعادة تعريف
لجرائم الاتجار بالبشر، وذلك لقصور التجريم الوارد بالمادة الثانية من القانون عن
تغطية بعض صور الاستغلال التي كشف عنها الواقع العملي مثل استغلال الأطفال في
الأعمال الإرهابية وتجارة المخدرات، واستغلال أطفال الشوارع في أعمال منافية
للآداب، وتزويج القاصرات دون السن بمقابل مادي فيما يعرف " بالدعارة المقنعة
".
وفي هذا السياق؛ أصدر المشرع المصري
القرار الجمهوري بقانون رقم (82) لسنة 2016 بإصدار قانون مكافحة الهجرة غير
الشرعية وتهريب المهاجرين، كما استبدل المشرع بمقتضى القانون رقم (5) لسنة 2018
المواد (290،289،283) من قانون العقوبات.
فتم تغليظ العقوبات على جرائم خطف
الأطفال والبالغين، وحالات الخطف المقترنة باعتداء على المخطوف أو بطلب فدية. إلا
أن الأمر كان يتطلب تغليظ العقوبات الواردة بالمواد (6،5) من القانون رقم (64)
لسنة 2010 بشأن مكافحة الإتجار بالبشر، بحيث تتم معالجة الجريمة بصورة أوسع نطاقاً
وأكثر شمولية.
ونعتقد أن جرائم الاتجار بالبشر على
تنوع صورها وتعقيدها في الآونة الأخيرة، وتعدد الفاعلين فيها على اختلاف أدوارهم،
أصبحت لا تحتاج إلى تعديل تشريعي فحسب، بل تحتاج وبشدة إلى شرطة متخصصة في هذا
المجال، تكفل لها جميع آليات مواجهة وإثبات تلك الجرائم الخطيرة.
فالأمر يقتضي مواجهة موضوعية وإجرائية
شاملة لمثل هذه الجرائم، تحمل مضموناً جديداً يجيد التعامل مع خطورة هذه الجرائم،
واحترافية مرتكبوها، على النحو الذي لا يهدم الحقوق والحريات.
الجريمة التاسعة: تجريم التدخل في شئون العدالة والقضايا:
تقضي أحكام المادة (184) من الدستور
بأن:
" السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقاً للقانون، ويبين القانون صلاحياتها، والتدخل في شئون العدالة أو القضايا، جريمة لا تسقط بالتقادم ".
كما قرر نص المادة (120) من قانون
العقوبات أن:
" كل موظف توسط لدى قاض أو محكمة لصالح أحد الخصوم أو إضراراً به سواء بطريق الأمر أو الطلب أو التوصية يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز خمسمائة جنيه ".
وترمي النصوص السابقة إلى الحفاظ على
استقلالية وحياد السلطة القضائية أثناء تأدية وظيفتها في الفصل فيما يعرض عليها من
نزاعات، وعدم وقوعها تحت أي تأثير أياً ما كانت صورته.
سواء بالطلب أو الرجاء أو التوصية، من
أصحاب النفوذ داخل الدولة أو غيرهم، فقد جعل الدستور من كل صور الأفعال السابقة
جريمة لا تسقط بالتقادم، لما تحدثه من خلل بميزان العدالة.
وتقول المحكمة الدستورية العليا في ذلك
أن:
" استقلال السلطة القضائية مؤداه أن يكون تقدير كل قاضٍ لوقائع النزاع، وفهمه لحكم القانون بشأنها، متحرراً من كل قيد، أو تأثير، أو إغواء، أو وعيد، أو تدخـــــل، أو ضغوط أيّاً كان نوعهـــــا أو مداها أو مصدرها. وكان ما يعزز هذه الضمانة ويؤكدها؛ استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأن تنبسط ولايتها على كل مسألة من طبيعة قضائية. فيتعين على السلطة التنفيذية بوجه خاص ألا تقوم من جانبها بفعل أو امتناع يجهض قراراً قضائياً قبل صدوره، أو يحول بعد صدوره دون تنفيذه تنفيذاً كاملاً، وليس لعمل تشريعي أن ينقض قراراً قضائياً، ولا أن يحـور الآثـار التي رتبهـــــا، ولا أن يعدل تشكيل جهة قضاء ليؤثر في أحكامها ".
وقد يكون من المستحسن أن يتم تعديل
المادة (120) من قانون العقوبات لتتكفل بالقضاء على كافة صور التدخل في شئون
العدالة، لتشمل الموظفين العموميين وغيرهم.
بحيث يحظر الطلب أو الرجاء أو التوصية
لدى قاض أو محكمة أو أعضاء النيابة العامة أثناء التحقيق في الدعاوى الجنائية،
وكـذلك يـجب أن تـشمل صور التـدخل في شـئون العـدالة - فضلاً عن الطلب والرجاء
والتوصية - صور التهديد والإكراه أياً ما كانت صورته، سواء من الرؤساء أو كبار
رجال السلطة التنفيذية.
وكذلك صور تهديد القاضي أو عضو النيابة
العامة في أمنه الشخصي أو سلامة المقربين منه، كما قد يكون في تغليظ العقوبة
الواردة بالمادة (120) رادع مناسب لكافة الأفعال التي يمكن أن تعيق سير العدالة
الجنائية، أو تحاول التأثير على نزاهة ما يصدر عن السلطة القضائية من أحكام.
الجريمة العاشرة: جريمة إهانة العلم المصري:
نصت الفقرة الثانية من المادة (223) من
الدستور على أن:
" إهانة العلم المصري جريمة يعاقب
عليها القانون ".
وتطبيقاً لذلك؛ صدر قرار رئيس
الجمهورية بقانون رقم (41) لسنة 2014 بشأن العلم والنشيد والسلام الوطنيين، مقرراً
في المادة (11) منه أن:
" يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وغرامة لا تجاوز ثلاثون ألف جنيهاً أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب في مكان عام أو بواسطة إحدى طرق العلانية المنصوص عليها في المادة (71) من قانون العقوبات أي من الأفعال التالية؛ إهانة العلم ومخالفة حكم المادة العاشرة من هذا القانون، وتضاعف العقوبة في حال العود ".
وقد عمد المشرع الدستوري والسلطة
التشريعية إلى كفالة الاحترام والوقار اللازم للعلم الوطني باعتباره رمزاً للدولة
ومعبراً عنها، إذ يعد التعامل معه باستخفاف أو بصورة مهينة أو غير لائقة، إهانة
موجهة للدولة بلا جدال، مما يخل بهيبتها ويناهض روح الانتماء الوطني.
لذا؛ فقد جرَّم المشرع بالقرار بقانون
رقم (41) لسنة 2014 كافة صور التعدي على العلم الوطني أو التعامل غير اللائق معه
بالمادة السادسة منه التي حظرت رفع العلم الوطني إن كان تالفاً أو مستهلكاً أو
باهت الألوان أو بأي طريقة غير لائقة.
كما حظرت وضع أي عبارات أو صور أو
تصاميم عليه أو استخدامه كعلامة تجارية، كما حظرت المادة الثامنة تنكيسه في غير
مناسبات الحداد الوطني.
بخلاف الحال في دولة كـ الولايات
المتحدة، التي أقرت المحكمة العليا فيها بأن حرق العلم الأمريكي هو تعبير عن الرأي
يحميه الدستور بمقتضى التعديل الأول الذي يحمي حرية التعبير، بحسبان هذا السلوك
تعبير "رمزي".
Post a Comment