ط
أخر الاخبار

شرعية التدابير الاحترازية: حدود سلطة القاضي في توقيع التدبير الاحترازي

 مقدمة:

يختلف تطبيق مبدأ الشرعية الجنائية بشأن التدابير الاحترازية عنه في العقوبة الجنائية، فالطبيعة الخاصة للتدابير الاحترازية فرضت مضموناً خاصاً لمبدأ الشرعية الجنائية تجاه نظام التدابير الاحترازية، وهو ما أقره القضاء الدستوري حين تعرض لشرعية التدابير الاحترازية.

 ولذلك؛ يمكن تناول مبدأ شرعية التدابير الاحترازية من خلال التقسيم التالي:

الفـرع الأول: حــــدود مـــبـــدأ شـــرعـــيــة الــــتـدابــيــر الاحـــتــرازيـة.

الفرع الثاني: تطبيقات القضاء الدستوري لمبدأ شرعية التدابير الاحترازية.

 

شرعية التدابير الوقائية: حدود سلطة القاضي في توقيع التدبير الاحترازي
شرعية التدابير الاحترازية: حدود سلطة القاضي في توقيع التدبير الاحترازي

 حدود مبدأ شرعية التدابير الاحترازية

التدابير الاحترازية هي الصورة الثانية من صور الجزاء الجنائي

وهي مجموعة من الإجراءات والوسائل التي يلجأ المشرع إلى إقرارها بغرض مكافحة الجريمة، وذلك من خلال توقيع هذه الاجراءات على مرتكب جريمة ما، إذا كانت لديه حالة " خطورة إجرامية " تنذر بوقوعه داخل دائرة الإجرام في المستقبل.

وذلك بهدف حماية المجتمع من هذه الخطورة الاجرامية، وصد المجرم عن معاودة ارتكاب الجرائم مستقبلاً، وإعادة تأهيله بما يصلح نفسه ويهذب سلوكه.

وإذا كانت الوظيفة الأساسية للعقوبة الجنائية وظيفة أخلاقية قوامها تحقيق العدالة والردع العام وإزالة آثار الجريمة بقدر الإمكان، فإن وظيفة التدابير الاحترازية تختلف عنها من حيث كونها وظيفة مانعة للجرائم.

أي تهدف إلى الدفاع عن المجتمع ضد الخطورة الإجرامية لبعض الأشخاص بمنع وقوع جرائم جديدة منهم في المستقبل، ووظيفة نفعية بالنسبة لمن تتوافر لديهم حالات الخطورة الإجرامية وذلك بإعادة تأهيلهم وإصلاحهم.

وتبدو أهمية التدابير الاحترازية بصفة خاصة بالنسبة لمن تتوافر لديهم إحدى حالات انعدام المسئولية الجنائية، مع بقاء احتمال ارتكابهم لجرائم جديدة في المستقبل.

ما هي أوجه الشبه والاختلاف بين العقوبات والتدابير الاحترازية؟

ويترتب على طبيعة التدابير الاحترازية ووظيفتها المنعية اختلافها عن العقوبة الجنائية من عدة زوايا رئيسية؛ فالتدابير الاحترازية لا تواجه إثم الجاني أو خطأه، فهي لا تحمل له معنى الإيلام أو الرد المقابل لارتكاب الجريمة.

ومن ثم؛ لا ترتبط التدابير الاحترازية بفكرة المسـئولية الجنائية وليست ملازمة لارتكاب الجريمة فهي مرتبطة بوجـود الخـطورة الإجـرامية.

كذلك فإن ارتباط التدابير الاحترازية بفكرة الخطورة الإجرامية لدى الشخص يجعلها عصيّة على التحديد المسبق، وذلك لارتباطها بالخطورة الاجرامية وجوداً وعدماً وهو ما يصعب الجزم به على نحو مسبق ومجرَّد.

كما يرتب ذلك الارتباط قابلية التدابير للتعديل بما يناسب شخصية الفرد وحالته الخطرة، وهو ما يعدم المجال أمام بعض قواعد تطبيق العقوبات الجنائية كإيقاف التنفيذ والظروف المخففة.

فالتدابير الاحترازية لا تخضع من حيث الأصل لمبدأ الضرورة الذى يجب أن تخضع له العقوبات الجنائية.

الضمانات الدستورية للجزاء الجنائي تسري على التدابير الاحترازية:

والأصل العام أن الضمانات الدستورية للجزاء الجنائي تسري على صورتيه (العقوبات والتدابير الاحترازية) على حد السواء، حفاظاً على حقوق وحريات الأفراد الأساسية التي يكفلها لهم الدستور، ضد مساس كلتا الصورتين بالحرية الفردية.

ففضلاً عن المبدأ الدستوري الذي يحظر إبعاد المواطنين عن البلاد بمقتضى نص المادة (62) من الدستور الذي قرر أن: " حرية التنقل، والإقامة، والهجرة مكفولة.

ولا يجوز إبعاد أي مواطن عن إقليم الدولة، ولا منعه من العودة إليه "، والذي يمكن اعتباره موجهاً من حيث الأصل إلى التدابير الاحترازية، فإن كافة الضمانات الدستورية للجزاء الجنائي تسري على صورتيه (العقوبات والتدابير الاحترازية) بشكل كامل.

وتشترك التدابير الاحترازية مع العقوبة في خضوع كل منهما لمبدأ الشرعية الجنائية، فلا يجوز توقيع أيًّ منهما إلا بموجب نص قانوني، كما يشتركان في مبدأ شخصية الجزاء الجنائي.

فكل من الإذناب الذي تقوم عليه العقوبة والخطورة التي تقوم عليها التدابير يرتبط بشخص مرتكب الجريمة أو من تتوافر لديه الخطورة الاجرامية، ولا يجب أن يمتد تطبيق أو آثار العقوبة أو التدبير إلى غير الشخص المسئول عن الجريمة أو من لديه حالة الخطورة الاجرامية.

وأخيراً، تشترك العقوبة مع التدبير الاحترازي في مبدأ قضائية الجزاء الجنائي، وضرورة توقيع كل منهما من جانب القاضي الجنائي حفاظاً على حريات الأفراد وعدم إساءة استخدام تلك التدابير لغير الأغراض النفعية التي تستهدفها.

فكل الضمانات الدستورية السالف بيانها نافذة من حيث الأصل في التدابير الاحترازية نفاذها في العقوبات. كما يُفترض في كل من العقوبة والتدبير، أن يتم احترام مبدأ إنسانية الجزاء الجنائي وحظر كل صور الجزاء التي تنطوي على إهانة لمن توقع عليه، أو تحط من كرامته.

الطبيعة الخاصة للتدابير الاحترازية:

إلا أنه كان لابد وأن تفرض طبيعة التدابير الاحترازية نوعاً من الاختلاف بينها وبين العقوبة الجنائية من حيث نفاذ الضمانات الدستورية للجزاء الجنائي داخل كل منهما، بما يحقق التطبيق الأمثل لهذه وتلك.

بحيث تأخذ الضمانات الدستورية بشأن التدابير الاحترازية مجالاً أكثر مرونة واتساعاً عن مجالها بشأن العقوبات الجنائية، تحقيقاً لأغراض التدابير الاحترازية ووظيفتها النفعية المانعة.

فإن كان مبدأ الشرعية الجنائية يسري على العقوبة والتدبير على حد السواء، إلا أن نتائجه بشأن التدابير الاحترازية تختلف عنها بالنسبة للعقوبات، إذ يتمتع القاضي الجنائي بسلطة تقديرية كبيرة عند توقيع التدابير الاحترازية مقارنة بسلطته التقديرية عند توقيع العقوبة.

فالقاضي يختار بين عدد كبير من الإجراءات التي يمكن توقيعها على الشخص، ثم يحدد مدد هذه التدابير بمرونة كبيرة.

كذلك فإنه إذا كان مبدأ الشرعية الجنائية يفرض حظر الأثر الرجعي لنصوص العقوبات الجنائية، فإن القضاء قد جرى في بعض البلدان - ولاسيما في فرنسا - على عدم سريان مبدأ عدم الرجعية على التدابير الاحترازية.

حيث طبق بأثر رجعي التدابير المستحدثة بشأن الأحداث على الجرائم المرتكبة قبل صدور النص المتعلق بتلك التدابير، وذلك تأسيساً على أن تلك التدابير مقصود بها مصلحة الحدث، وأنها متجردة من الإيلام المقصود والوصمة الاجتماعية.

اختلاف تطبيق الضمانات الدستورية للتدابير الاحترازية عن العقوبات الجنائية:

وبالمثل؛ فإن كان مبدأ الشرعية الجنائية يفرض صفة التحديد الدقيق للعقوبة الجنائية بنص قانوني سابق على ارتكاب الجريمة، فإن هذه الصفة تتراجع بشأن التدابير الاحترازية التي يصعب تحديد المشرع لها بشكل مسبق.

فالتدبير الذي يصلح لمرتكب جريمة ما، قد لا يصلح في شأن آخر ارتكب ذات الجريمة، كما أنه بالنسبة للتدبير الواحد، تختلف مدة استجابة كل فرد عن الآخر لبرامج الإصلاح والتأهيل التي يتلقاها لدرء خطورته الاجرامية.

لذا؛ فقد فرضت طبيعة التدابير الاحترازية على ذاتها صفة عدم التحديد حتى تتمكن من تحقيق أغراضها. إلا أن عدم التحديد لابد وأن يكون " نسبياً " حتى يمكن قبوله، كضرورة وضع حد أقصى مقبول لمدة التدبير وعدم تجديد المدة إلا لأسباب جدية تبرر ذلك وبضمانات محددة.

لأن القول بغير ذلك يعصف بالحريات الفردية، ويمنح الجهات المنفذة لتلك التدابير سلطات قد تصبح استبدادية في مجال التطبيق.

وبناء على ما سبق؛ كان من الطبيعي أن يأخذ مبدأ المساواة كقيمة دستورية نظرة مختلفة في شأن التدابير الاحترازية عنه في العقوبة الجنائية.

فلا وجود لحق للدولة يُستقضى من المحكوم عليه بالتدبير، ولا ميزان يحدد جسامة التدبير بالنظر إلى جسامة المصلحة المعتدى عليها كما هو الحال في العقوبة، ولا تستقيم مجابهة الخطورة الاجرامية بتطبيق ذات التدبير على ذات الأشخاص ولو تطابقت سوابقهم الاجرامية.

وإنما يمكن النظر إلى مبدأ المساواة في تطبيق التدابير الاحترازية من زاوية المساواة بين معاملة المشرع لذوي الخطورة الاجرامية على المجتمع، من حيث اتخاذ الاجراء المناسب لكل حالة بما يكفل درء خطورتها الاجرامية بأقل قدر ممكن من التدخل في الحرية الشخصية.

وذلك حفاظاً على الحقوق والحريات الفردية، ويتطلب ذلك دقة قضائية في توقيع التدابير، ومهارة وخبرة لدى جهات الإدارة القائمة على تنفيذها.

تطبيقات القضاء الدستوري لمبدأ شرعية التدابير الاحترازية

لم يتبن المشرع المصري تنظيماً شاملاً وواضحاً للتدابير الاحترازية، لذا؛ فقد حرصت المحكمة الدستورية العليا من خلال أحكامها على تحديد نطاق تطبيق التدابير الاحترازية بالدقة التي تبين حدودها وشرعيتها.

وتحديد قدر المساس بالحرية الشخصية المسموح به - وفقاً لمبادئ الدستور- من خلال تطبيق التدابير الاحترازية على الأفراد. ومن أهم تطبيقات القضاء الدستوري بخصوص شرعية التدابير الاحترازية:

أولاً: عدم دستورية نص المادة (561) من قانون التجارة رقم (17) لسنة 1999:

كانت المادة (561) من قانون التجارة رقم (17) لسنة 1999 تنص على أن:

" 1- يجوز للمحكمة بناء على طلب قاضي التفليسة أو النيابة العامة أو أمين التفليسة أو المراقب أن تأمر عند الاقتضاء بالتحفظ على شخص المفلس أو بمنعه من مغادرة البلاد لمدة محددة قابلة للتجديد. وللمفلس أن يتظلم من هذا الأمر دون أن يترتب على التظلم وقف تنفيذه.

2- وللمحكمة أن تقرر في كل وقت إلغاء أمر التحفظ على شخص المفلس أو أمر المنع من مغادرة البلاد ".

ورأت المحكمة أن: " مفاد صدر نص البند (2) من المادة (561)، والبند (1) من المادة (586) من قانون التجارة المشار إليه، جواز التحفظ على شخص المفلس، في حال الضرورة أو عند الاقتضاء، لمدة لم يعينها النصَّان،

وتستقل محكمة الإفلاس بتحديدها، وتجديدها بغير ضابط من النصين، سواء أمرت محكمة الموضوع بهذا الإجراء، أو كان ذلك بناءً على طلب قاضي التفليسة أو النيابة العامة أو أمين التفليسة أو المراقب، في تاريخ صدور حكم الإفلاس، أو بعد صدوره؛

وذلك إذا رأت في مسلكه واستخلصت من تصرفاته عدم تعاونه مع أمين التـفليسة، وعدم تنـفيذ قـرارات قـاضيها، وإتيـانه تصرفات من شـأنها الإضرار بجماعة الدائـنين "،

على نحو ما أوردته المذكـرة الإيضاحية للقانون، بما يتأدى في النصّين إلى التحفظ على شخص من حكم بإشهار إفلاسه بأي صورة من صور التحفظ، والتي تتماهى - أثراً - مع بدائل الحبس الاحتياطي المُشَرَّعة ضمن إجراءات التحقيق الجنائي، والتي يمكن أن تستطيل إلى تخوم التدابير الاحترازية التي يكون مناط إقرارها توقّي خطورة إجرامية تهدد أمن المجتمع وسكينته ".

وانطلاقاً من مبادئ صيانة الحرية الشخصية التي كفلها الدستور، رأت المحكمة أن:

" تطبيق التدابير التحفظية، بحكم أو أمر قضائي، لا يكون إلا على من تتوافر فيه مظاهر خطورة إجرامية تهدد المجتمع، فلا يحق التدخل بتدابير الدفاع الاجتماعي لمواجهة أفراد لم يرتكبوا جريمة،

أو لم تبد عليهم مظاهر خطورة إجرامية، مما مؤداه أنه ولئن كان السماح بإنزال التدبير التحفظي ينطوي على افتئات على حرية الشخص، إلا أنه يتعين خضوع هذه التدابير، في أحوال توقيعها لمبدأ الشرعية الدستورية ".

فقررت المحكمة بناء على ذلك أن:

" النصين التشريعيين محل الرقابة الدستورية في الدعوى المعروضة، إذ يجيزان التحفظ على شخص المحكوم عليه بشهر إفلاسه، ولو بحكم غير نهائي، ودون أن يكون متهماً بإفلاس بالتدليس أو بالتقصير،

فإنهما ينطويان على تقييد الحرية الشخصية لمن حُكم بإشهار إفلاسه بغير انتهاج الوسائل القانونية التي كفلها الدستور، ودون الالتزام بالقيود والضوابط الدستورية التي تحكم تقرير أي من الإجراءات المقيدة للحرية وأحوالها وفقاً لنصي المادتين (92،54) من الدستور.

وعليه؛ حكمت المحكمة: أولاً: بعدم دستورية صدر البند (2) من المادة (561) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم (17) لسنة 1999 فيما نص عليه من أنه: " وللمحكمة، عند الضرورة، أن تأمر باتـخاذ الإجـراءات اللازمة للتـحفظ على شخص المدين "،

وعــبارة " بالتحفظ على شخص المفلس "، الواردة بنص البند (1) من المادة (586) من القانون ذاته.

ثانياً: بسقوط عجز نص البند (2) من المادة (561)، وعـبارة " أمر التحفظ على شخص المفلس " المنصوص عليها في البند (2) من المادة (586) من قانون التجارة الصادر بالقانون رقم (17) لسنة 1999.

ويتضح من الحكم السابق أن المحكمة الدستورية العليا قد اعتمدت في تكييفها للإجراء الذي نص عليه المشرع بالنظر إلى حقيقة الإجراء وجوهره والآثار التي يفضي إليها.

فرأت المحكمة في تقييد حرية المفلس أو منعه من مغادرة البلاد ذات الآثار التي تترتب على تطبيق التدابير الاحترازية في جوهرها، وأكدت المحكمة من خلال قضائها على ضرورة خضوع التدابير الاحترازية لمبدأ الشرعية الدستورية.

كما أكدت على الأصل العام الذي يقضي بأن التدابير الاحترازية لا توقع إلا بمناسبة ارتكاب جريمة مع وجود حالة خطورة إجرامية ظاهرة.

ثانياً: عدم دستورية نص المادة (48) مكرراً من القانون رقم (182) لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها:

كانت المادة (48) من القانون رقم (182) لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها، تنص بعد تعديلها بالقانون رقم (40) لسنة 1966، على أن

" تحكم المحكمة الجزئية المختصة باتخاذ أحد التدابير الآتية على كل من سبق الحكم عليه أكثر من مرة، أو اتهم لأسباب جدية أكثر من مرة في إحدى الجنايات المنصوص عليها في هذا القانون:

  1. الإيداع في إحدى مؤسسات العمل التي تحدد بقرار من وزير الداخلية.
  2. تحديد الإقامة في جهة معينة.
  3. منع الإقامة في جهة معينة.
  4. الإعادة إلى الموطن الأصلي.
  5. حظر التردد على أماكن أو محال معينة.
  6. الحرمان من ممارسة مهنة أو حرفة معينة.

ولا يجوز أن تقل مدة التدبير المحكوم به على سنة، ولا تزيد على عشر سنوات. وفي حالة مخالفة المحكوم عليه التدبير المحكوم به، يحكم على المخالف بالحبس ".

وإذ تم الطعن على دستورية المادة سالفة البيان من جانب متهم في دعوى جنائية " مخدرات "، ثبت أنه مسجل شقي خطر سبق ضبطه في إحدى عشرة قضية مخدرات، وأن نشاطه قد اتسع في تهريبها وتجارتها.

ذهبت المحكمة الدستورية العليا إلى أن:

" التدابير التي حددها النص المطعون فيه، تنال جميعها من الحرية الشخصية لاتسامها بخصائص العقوبة وانطوائها على عبئها، وانصرافها إيلاماً مقصوداً، ولا تقابلها أفعال أثَّمها المشرع وحددها تحديداً دقيقاً؛

وكان اتخاذ أحد هذه التدابير بناء على اتهام متلاحق في شأن شخص معين - ولو كان اتهاماً جدياً - مؤداه: أنه صار مشتبهاً فيه - لا بناء على أفعال يتوافر لها خاصية اليقين التي تميز القوانين الجزائية - بل ارتباطاً بخطورة إجرامية افترضها المشرع ووصمه بها.

وكانت خطورته هذه - التي استنبطها المشرع من تعدد وقائع الاتهام - وإن لم تفض بعد إلى جريمة بالفعل، إلا أن المشرع أقام بها صلة مبتسرة بين ماضيه وحاضره، دامجاً بينهما، مستوجباً محاسبته عن تلك الحالة التي أنشأها،

وقرنها بتتابع الاتهام، لتنحل إرهاصاً بعودة الأشخاص الذين تعلق بهم مجال تطبيق النص المطعون فيه إلى الإجرام، بافتراض أنهم لا يعرفون لأقدامهم موقعها، ولا يقدرون للأمور عواقبها، وأن نزوعهم إلى الإجرام راجحاً،

حال أن مصائر الناس لا يجوز أن تعلق على غير أفعالهم التي يسألون عن حسنها أو قبحها؛ وكان اتهامهم ولو كان جدياً ومتتابعاً، لا يعدو أن يكون شبهة قد لا يكون لها من ساق، ولا يجوز بالتالي أن يردهم النص المطعون فيه جميعاً إلى دائرة الخطورة الاجتماعية،

ويلصقها دوماً بهم، أياً كان مصير الاتهام الموجه إليهم، بل ولو قضي ببراءتهم، ليكون لغواً وافتئاتاً على الحرية الشخصية في جوهر خصائصها، وهى بعد حرية لا يجوز تقييدها على خلاف أحكام الدستور التي لا تعتد إلا بالأفعال وحدها باعتبارها مناط التأثيم،

ولأنها دون غيرها هي التي يجوز إثباتها ونفيها، وهي التي يتصور أن تكون محل تقدير محكمة الموضوع، وأن تكون عقيدتها بالبناء عليها. ولا كذلك الخطورة الإجرامية التي لا تمثل سلوكاً محدداً أتاه الشخص،

ولا تخالطها إرادة واعية يعبر بها عن قصد بلوغ نتيجة إجرامية بذاتها، بل تقوم في مبناها على افتراض تشريعي منتحل، مؤداه: أن المتهمين جدياً أكثر من مرة، قد شقوا على جماعتهم عصا الطاعة، وأنهم بالغون من أمرهم ما يدنيهم من العدوان عليها، وهو افتراض يباعد بينهم وبينها، لتنغلق أمامهم فرص الاندماج فيها.

وحيث ان النص المطعون فيه - وفي ضوء ما تقدم - يقيد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية التي كفلها الدستور، ولا يلتزم الضوابط التي رسمها في شأن المحاكمة المنصفة، ومن بينها افتراض البراءة كحقيقة مستعصية عن الجدل،

وليس مبناه فعل أو امتناع يمثل سلوكاً مؤاخذاً عليه قانوناً؛ وكان إيقاع أحد هذه التدابير التي تتوافر لها خصائص الجزاء - وحتى بافتراض جواز تقريرها اتصالاً بالخطورة الإجرامية التي افترضها المشرع - يمتد زمناً قد يصل إلى عشر سنين بما يؤكد قسوتها،

لتعطل حق المشمولين بها في النفاذ إلى ألوان الحياة وأشكالها في مجتمعهم مع تضييقها لفرصهم في العمل، بما يعوق اندماجهم في القيم التي يؤمن بها؛ وكان لا يجوز بعد اتخاذ هذه التدابير - وبفرض جوازها - الرجوع عنها أو تعديلها بما يكفل تناسبها أو استمرار ملاءمتها للأوضاع المتطورة للحالة الإجرامية التي وسمهم المشرع بها؛

وكان المشمولون بتلك التدابير، مواجهين بها لا يملكون دفعها، كلما قام الدليل على سبق الحكم عليهم واتهامهم جدياً أكثر من مرة، مما يجردهم من وسائل الدفاع التي كفلها الدستور في شأن كل جزاء جنائياً كان أم تأديبياً؛ وكان من المقرر في شأن تدابير الدفاع الاجتماعي أن غايتها بلوغ أغراض بعينها تقتضي جهداً وصبراً ممتداً،

فإن العدول عنها قبل أن تكتمل أهدافها، لا يكون جائزاً، ولو لم يعد المشمولون بها من الخطرين. وحيث إنه متى كان ذلك، فإن النص المطعون فيه يكون مخالفاً لأحكام المواد (13، 41، 66، 67، 69) من الدستور.

وحكمت المحكمة: بعدم دستورية نص المادة (48 مكرراً) من القانون رقم 182 لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها.

التعليق على حكم المحكمة الدستورية العليا:

والواقع أننا لا نؤيد ما ذهبت إليه المحكمة الدستورية العليا في قضاؤها السابق، تأسيساً على الاعتبارات التالية:

أولاً: مساواة المحكمة الدستورية بين التدابير الموجودة بالنص المطعون عليه والعقوبة الجنائية من حيث خصائصها وتضمنها إيلاماً مقصوداً، وتوحيد المعاملة بين العقوبة والتدابير من حيث عدم جواز تقرير أيًّ منهما إلا في مقابل جريمة يحددها المشرع بدقة.

إضافة إلى نظرة المحكمة إلى الخطورة الاجرامية باعتبارها " افتراضاً تشريعياً منتحلاً "، يهدم نظرية التدابير الاحترازية كليَّاً، ويناقض ما قررته المحكمة ذاتها في أحكام أخرى من أن:

" تطبيق التدابير التحفظية، بحكم أو أمر قضائي، لا يكون إلا على من تتوافر فيه مظاهر خطورة إجرامية تهدد المجتمع ". وأنه: " لا يحق التدخل بتدابير الدفاع الاجتماعي لمواجهة أفراد لم يرتكبوا جريمة، أو لم تبد عليهم مظاهر خطورة إجرامية ".

ثانياً: إغفال المحكمة لوقائع الدعوى المطروحة عليها من حيث أن الطاعن قد سبق ضبطه في إحدى عشر قضية مخدرات، واشتهر عنه تجارة المخدرات وتوزيعها.

فإنكار المحكمة لتوقيع تدبير احترازي على صاحب الدعوى استناداً إلى اعتبارات حماية الدستور للحرية الفردية وأصل البراءة لم يكن في محله، وقد ثبت يقيناً من وقائع الدعوى أن الطاعن لديه سجل إجرامي يكشف عن إصراره على ارتكاب جرائم المخدرات،

بما يستلزم اتخاذ إجراءات الوقاية الاجتماعية في مواجهته حماية للمجتمع من شروره.

ثالثاً: انتقاد المحكمة للحدين الأدنى والأقصى لمدة التدبير لم يكن مبرراً، فالسلطة التقديرية الواسعة التي يجب منحها للقاضي الجنائي في شأن تطبيق التدبير الاحترازي تبرر ذلك وتحتاج إليه، لاسيما بالنظر إلى خطورة جرائم المخدرات وخطورة مرتكبيها وصعوبة إعادة تأهيلهم.

ولذلك؛ نعتقد أن المحكمة الدستورية العليا قد تساهلت في حين كان يجب أن تتشدد، ومنحت ضمانات الحرية الشخصية لمن لا يستحق.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -