ط
أخر الاخبار

مبادئ القانون الجنائي : الضرورة الاجتماعية في التجريم والعقاب

 الضرورة الاجتماعية في التجريم والعقاب:


أوضحنا في مقال سابق أن فكرة التجريم الجنائي فكرة نسبية، والواقع أن جوهر تلك النسبية يكمن في تحديد الضرورة الاجتماعية للتجريم، فتجريم المشرع لأي فعل أو امتناع، يرتبط بالضرورة الاجتماعية التي اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها.


ما هي علة التجريم؟ ما هو الاتفاق الجنائي؟ هل يعاقب القانون على النوايا؟ ما هي السياسة الجنائية المتبعة من طرف المشرع الجزائري في التجريم؟
مبادئ القانون الجنائي : الضرورة الاجتماعية في التجريم والعقاب


أي متى يتدخل المشرع الجنائي بالتجريم والجزاء الجنائيين استشعاراً منه لخطورة وضع اجتماعي معين، أو تقديراً لجسامة الاعتداء على حق أو مصلحة ما، أو تعبيراً عن الاستهجان البالغ لأنماط معينة من السلوك.


الضرورة الاجتماعية فكرة متغيرة وغير ثابتة:


والضرورة الاجتماعية بدورها ليست ثابتة جامدة، بل إنها متغيرة بتغير الظروف وتطور المصالح والقيم. وقد أدى التطور السياسي والاجتماعي والتكنولوجي والاقتصادي إلى ظهور جرائم مستحدثة. 

منها على سبيل المثال: الجرائم ضد الإنسانية، والاتجار في المخدرات، وغسل الأموال والإرهاب والاتجار في النساء والأطفال، والاتجار غير المشروع في السلاح.


كما اتخذت بعض هذه الأفعال شكل الجريمة المنظمة التي قد تتجاوز حدود الدولة، والتي أصبحت تتمتع بقدرات كبيرة جداً من التنظيم والتخطيط والكفاءة والقوة وممارسة النفوذ والقدرة على التعامل مع المنظومات التشريعية للدول.


وتعمل عادة بطريق العنف في أنشطة تهدف من ورائها إلى الحصول على المال أو السلطة.مما يعرض أمن المجتمع ومصالحه للخطر، ويتطلب مواجهة شاملة من خلال التجريم والعقاب في إطار التعاون الدولي.


وقد تتطلب هذه المواجهة تجريم مجرد الانضمام للجماعة المنظمة ولو لم ينتج أثراً. وهو ما أكدته المحكمة الدستورية العليا بقولها أنه:

" إذا كان الأصل في التجريم أن يعمد المشرع إلى تحديد الأفعال التي تنطوي على مساس مباشر بالمصلحة المحمية، إلا أن التطور الحديث في وسائل وأدوات ارتكاب الجريمة أوجب أن يواجه المشرع الجريمة المنظمة وما تمثله من مســــــاس بتلك المصلحة ".


هل أدى التطور الاجتماعي والتكنولوجي إلى زيادة معدلات الجريمة؟


تتزايد بمرور الوقت - نتيجة للتطور السريع لوسائل الاتصالات - الجرائم الإلكترونية، سواء ضد الأشخاص بالاعتداء على حرمة حياتهم الخاصة عن طريق التجسس، أو المساس بذمتهم المالية بجرائم السرقة الإلكترونية والاستيلاء على الحسابات البنكية.


كما قد تقع تلك الجرائم الإلكترونية إضراراً بالدولة ذاتها كاختراق الحسابات والصفحات الرسمية لمؤسسات الدولة وإفشاء الوثائق السرية أو بيعها.


بل ان هناك بعداً خطيراً للجريمة الجنائية شهده الواقع المصري منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير لعام 2011 وما بعدها، وهو اقتران الجريمة الجنائية بالأغراض السياسية مؤازرةً لاتجاهات سياسية معينة أو مجابهةً لأخرى.


وبناء عليه؛ فإذا كانت الشرعية الجنائية التي تعبر عن عدم مخالفة القانون الجنائي لأحكام الدستور، هي أهم المبادئ التي تلتزم بها السلطة المخولة بممارسة صلاحية التجريم والعقاب في رسم إطار السياسة الجنائية الوضعية،

فإن ثمة مبدأ آخر لا يقل أهمية عن المبدأ الأول، تلتزم به هذه السلطة، يتمثل في حصر وتقييد التدخل الجنائي في الحد الأدنى، وذلك بقصره على الحالات التي تبررها الضرورة الاجتماعية القصوى، بحيث يكون هذا التدخل هو الملجأ الأخير والوسيلة الـفعالة في مجال حماية الحق أو المصلحة القانونية سواء كانت عامة أو خاصة.


وفي تحديد مضمون الضرورة التي تبرر التجريم الجنائي، قررت المحكمة الدستورية العليا أن تلك الضرورة يجب أن تتجلى في درء الخطر عن مصلحة اجتماعية على قدر معين من الأهمية، فقالت أنه:

" من المقرر في قضاء هذه المحكمة أنه يجب أن يقتصر العقاب الجنائي على أوجه السلوك التي تضر بمصلحة اجتماعية ذات شأن، لا يجوز التسامح مع من يعتدي عليها، فالقانون الجنائي يتخذ من الجزاء الجنائي آداة لحمل الأفراد على إتيان الأفعال التي يأمرهم بها، أو التخلي عن تلك التي ينهاهم عن مقارفتها،

وهو بذلك يتغيا أن يحدد من منظور اجتماعي ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مخالفاً للدستور، إلا إذا كان مجاوزاً حدود الضرورة التي اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها، فإذا كان مبرراً من وجهة اجتماعية، انتفت عنه شبهة المخالفة الدستورية ".


المصلحة الاجتماعية هي نقطة البداية للتجريم:


إذاً، فالمعيار الأول الذي يمكن الاسترشاد به للوقوف على ضرورة التجريم هو أن ينصب التجريم على مصلحة لها قدر من الأهمية والاعتبار.


أما المعيار الثاني الذي يمكن اللجوء إليه في سبيل تحديد الضرورة الاجتماعية في التجريم هو هدف التشريع الجنائي ذاته، والغاية التي يرمى إلى تحقيقها، والتي هي أوسع نطاقاً من مجرد حماية مصلحة أو حق ما.


وتتحدد الضرورة في التجريم في ضوء الهدف منه، فلا يمكن السماح بالمساس بالحقوق والحريات من خلال التجريم إلا إذا اقتضى ذلك تحقيق هدف معين هو حماية المصلحة العامة أو حماية الحقوق والحريات التي تتعرض للضرر أو الخطر.


فارتباط التجريم بالهدف من نصوص التجريم هو أساس الضرورة ومحورها. ومن ثم، فإن الضرورة تنطوي على الالتزام نحو تحقيق هذا الهدف.

فالقاعدة القانونية لا تكون ضرورية إلا إذا وضعت لمعالجة وضع معين، فتعالجه على نحو كاف وبغير مبالغة. فيكفل تطبيق القاعدة على هذا النحو معالجة هذا الوضع بطريقة منطقية.


وفي تحديد ضرورة التشريع في ضوء الهدف منه، تقول المحكمة الدستورية العليا أن:

" النصوص القانونية أو اللائحية التي تنظم موضوعاً محدداً، لا يجوز أن تنفصل عن أهدافها، ذلك أن كل تنظيم تشريعي أو لائحي لا يصدر عن فراغ ولا يعتبر مقصوداً لذاته، بل مرماه إنفاذ أغراض بعينها يتوخاها، وتعكس مشروعيتها إطاراً للمصلحة العامة التي أقيم عليها هذا التنظيم" .

بل وأكدت ضرورة أن يكون هذا الاتصال بين النصوص القانونية وغاياتها وأهدافها حقيقياً بقولها: " أن يكون هذا الاتصال بين أغراض النصوص القانونية وأغراضها، وبافتراض مشروعيتها، منطقياً، لا واهياً أو مفتعلاً ".


وتطبيقاً لذلك: قررت المحكمة العليا في شأن تقدير ضرورة إصدار القرار الجمهوري بقانون رقم (120) لسنة 1962 والمتضمن تشديد عقوبة الراشي والمرتشي، في غيبة البرلمان، أن:

" تقدير قيام الضرورة لا يخضع لمعيار ثابت، وإنما يتغير بتغير الظروف، فما يعتبر ضرورة في وقت من الأوقات قد لا يعتبر كذلك في وقت آخر، ولما كانت الظروف التي صدر فيها القانون رقم (120) لسنة 1962 - بتشديد عقوبة الراشي والمرتشي - قد اقتضت الإسراع بإصدار هذا التشريع حفاظاً على أمن الدولة الاقتصادي، ومن ثم يكون رئيس الجمهورية إذ أصدر التشريع المشار إليه في تلك الظروف غير مجاوز حدود سلطته التقديرية في هذا الصدد ".


كما رفضت المحكمة الدستورية العليا، الطعن على دستورية المادة (375 مكرراً) من قانون العقوبات والمضافة بالمرسوم بقانون رقم (10) لسنة 2011، تأسيساً على عدم وجود ضرورة اجتماعية من إصدارها. وتقضي المادة المذكورة بأنه:

" مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد واردة في نص آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل من قام بنفسه أو بواسطة الغير باستعراض القوة أو التلويح بالعنف أو التهديد بأيهما أو استخدامه ضد المجني عليه أو مع زوجه أو أحد أصوله أو فروعه،

وذلك بقصد ترويعه أو التخويف بإلحـاق أي أذى مادي أو معنوي به أو الإضرار بممتلكاته أو سلب ماله أو الحصول على منفعة منه أو التأثير في إرادته لفرض السطوة عليه أو إرغامه على القيام بعمل أو حمله على الامتناع عنه أو لتعطيل تنفيذ القوانين أو التشريعات أو مقاومة السلطات أو منع تنفيذ الأحكام، أو الأوامر أو الإجراءات القضائية واجبة التنفيذ أو تكدير الأمن أو السكينة العامة،

متى كان من شــأن ذلك الفعل أو التهديد إلقـاء الرعب في نفـــس المجني عليه أو تكدير أمنه أو سكينته أو طمأنينته أو تعريض حياته أو سلامته للخطر أو إلحاق الضرر بشيء من ممتلكاته أو مصالحه أو المساس بحريته الشخصية أو شرفه أو اعتباره.

وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تجاوز خمس سنوات إذا وقع الفعل من شخصين فأكثر، أو باصطحاب حيوان يثير الذعر، أو بحمل أسلحة أو عصى أو آلات أو أدوات أو مواد حارقة أو كاوية أو غازية أو مخدرات أو منومة أو أية مواد أخرى ضارة، أو إذا وقع الفعل على أنثى، أو على من لم يبلغ ثماني

عشرة سنة ميلادية كاملة. ويقضى في جميع الأحوال بوضع المحكوم عليه تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة العقوبة المحكوم بها".


ورأت المحكمة الدستورية أن:

" تأثيم الأفعال الواردة بهذا النص يجد ضرورته الاجتماعية في حماية الآمنين من الترويع ومنع الافتئات على النواميس وصون دولة القانون، مما يُعد مسوغاً دستوريّاً لتأثيمها.

كذلك فإن الجرائم الواردة في هذا النص يؤبه فيها بالأساس، لخطورة الأفعال المؤثمة وما يمكن أن تحدثه من مساس أو عدوان على الحقوق والحريات، والمصالح الاجتماعية محل الحماية الجنائية، وهى جميعاً حقوق وحريات ومصالح اجتماعية معتبرة، قدَّر المشرع صائباً أن حمايتها من أي أفعال من شأنها المساس بها أو النيل منها، يسوغ التجريم،

وقد أورد الدستور جلها كالحق في الحياة الآمنة والكرامة، والحق في سلامة الجسد، والحرية الشخصية، والحق في صون الشرف والاعتبار، وحق الملكية، والحق في الأمن والسكينة، والتي حرص الدستور على توكيدها في المواد (33، 35، 51، 54، 59، 60) منه ".


عدم دستورية جريمة الاتفاق الجنائي العام:


وفي المقابل؛ اتخذت المحكمة الدستورية العليا موقفاً مغايراً بشأن نص الفقرة الأولى من المادة (48) من قانون العقوبات التي قضت بعدم دستوريتها، والتي كانت تنص على أنه:

" يوجد اتفاق جنائي كلما اتحد شخصان فأكثر على ارتكاب جناية أو جنحة أو على الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها، ويعتبر الاتفاق جنائياً سواء كان الغرض منه جائزاً أم لا إذا كان ارتكاب الجنايات أو الجنح من الوسائل التي لوحظت في الوصول إليه ".


فرأت المـحكمة أن نـص هذه الفـقرة لم يـشترط عدداً كافياً من الأشخاص لقيام جريمة الاتفاق الجـنائي، ولم يحدد نوعاً معيناً من الجنايات أو الجنح أو قدراً معيناً من الجسامة لتلك الجنايات أو الجـنح، وأن نـطاق التـجريم فيه جاء واسعاً فضفاضاً، لا تقتضيه ضـرورة اجتماعية مبررة ".


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -