ط
أخر الاخبار

دور اللائحة في التجريم والعقاب وحدود مبدأ انفراد التشريع بالتجريم

مبدأ انفراد التشريع بنصوص التجريم والعقاب:


أوضحنا في مقالات سابقة أن المبـادئ الدسـتورية للتـجريم والـعقاب هي خطاب الدسـتور للسـلطة التشريعية، وبالتالي فإن جوهر مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات هو مبدأ انفراد السلطة التشريعية بوضع نصوص التجريم والعقاب.


ما معنى التفويض التشريعي؟ دور السلطة التنفيذية في التجريم والعقاب, دور اللائحة في القانون الجنائي, مبدأ انفراد التشريع بمسائل التجريم والعقاب
دور اللائحة في التجريم والعقاب وحدود مبدأ انفراد التشريع بالتجريم


إلا أن المبدأ السابق ليس مطلقاً، إذ تفرض اعتبارات حسن سير العدالة الجنائية نفاذ بعض نصوص التجريم والعقاب في غير صورة القانون الصادر عن مجلس النواب. وهو ما يقودنا للحديث عن دور اللائحة في التجريم والعقاب.


فقد تفرض بعض أنماط التجريم الحاجة إلى قدر من التخصص، أو تفصيل ما ورد عاماً من أحكام القانون، مما يستتبع السماح - على سبيل الاستثناء - للسلطة التنفيذية بالتدخل لإصدار اللوائح التي قد تشتمل على قواعد التجريم والعقاب، أو تحدد بدقة نطاق التجريم.


ويمكن التعرض لأشهر الحالات التي يمكن إقرار نصوص التجريم والعقاب من خلالها في غير صورة التشريع الصادر عن مجلس النواب، وهي وضع نصوص التجريم والعقاب من خلال اللائحة:


دور اللائحة كمصدر للتجريم والعقاب:

  • هل تصلح اللائحة مصدراً للتجريم والعقاب؟
  • ما هو التفويض اللائحي؟

تمارس السلـطة التـنـفـيذية اختصـاصها بإصدار لوائح تتضمن نصـوصاً للتجريم والعقاب استناداً إلى نـص الدسـتور، وما ورد بالمادة (95) منه التي قررت أنه: " لا جـريمة ولا عـقوبة إلا بناء على قانون ".


وهو ما يمنح المشرع إمكانية تفويض السلطة التنفيذية في وضع لوائح تتضمن نصوصاً للتجريم والعقاب، وذلك لاعتبارات يقدرها القانون ذاته، محدداً على ضوئها حدود وضوابط هذا التفويض.


وهو ما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا، الذي قرر أن: " الأصل أن السلطة التنفيذية لا تتولى التـشريع، وإنما يقوم اختصاصها أساساً على تنفيذ القوانين وإعمال أحكامها.


غير أنه استثناء من هذا الأصل وتحقيقاً لتعاون السلطات وتساندها، فقد عهد الدستور إليها في حالات محددة أعمالاً تدخل في نطاق الأعمال التشريعية، بما مؤداه أن الدستور قد اعترف بحق السلطة التنفيذية في إصدار اللوائح استثناء، وفي الحدود الضيقة التي بينتها نصوص الدستور حصراً.


ويندرج تحتها إصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين، والتي لا يدخل في مفهومها توليها ابتداء تنظيم مسائل خلا القانون من بيان الإطار العام الذي يحكمها، إذ لا تكون اللائحة عندئذ قد فصَّلت أحكاماً أوردها المشرع إجمالاً، وإنما شرَّعت ابتداء من خلال نصوص جديدة لا يمكن إسنادها إلى القانون.


 ذلك أن الغرض من صدور اللائحة يتعين أن ينحصر في إتمام القانون، أي وضع القواعد والتفاصيل اللازمة لتنفيذه مع الإبقاء على حدوده الأصيلة بلا أدنى مساس. ودون أن تنطوي على تعديل أو إلغاء لأحكامه، أو أن تضيف إليه أحكاماً تبعده عن روح التشريع، فيجاوز مصدرها الاختصاص الدستوري المخول له ".


موقف النظامين الفرنسي والأمريكي من التجريم والعقاب من خلال اللائحة:


أكد المجلس الدستوري الفرنسي حين قرر أن: " اللائحة تنفذ القاعدة التي تضمنها التشريع، وأنها تضع وسائل تطبيق المبادئ الأساسية التي يحددها التشريع ".


كما أكدت المحكمة العليا الأمريكية أنه: " يجوز للكونغرس منح سلطة تقديرية للوكالات التنفيذية لتنفيذ القوانين، طالما وضع الكونغرس بموجب قانون تشريعي مبدأً واضحاً يكون الشخص أو الهيئة المرخص له ممارسة تلك السلطة مُوجَّهاً إليه.


وأن يصدر عن السلطة التنفيذية نصوص قانونية عامة ومجردة وسابقة على ارتكاب المخالفات الجنائية، حتى يمكن تنفيذ العقوبات الجنائية استناداً إليها ".


فاللائحة تؤدي بشكل عام دوراً مكملاً إلى جانب نص التشريع، فإن كان الأمر متعلقاً بالتجريم؛ انفرد التشريع بتحديد الأهداف التي تتوخى اللائحة تحقيقها، أو بتحديد المصالح التي يجب أن تحميها من وراء التجريم.


وإن كان الأمر متعلقاً بالعقاب؛ انفرد التشريع بتحديد الحدين الأدنى والأقصى من العقوبات الذي يمكن للائحة أن تتحرك بداخلهما، وليس له أن يترك العنان للائحة في تحديد ما تختاره من عقوبات من حيث النوع أو الكم، وإنما يجب أن يتم ذلك في الحدود التي يضعها المشرع في هذا الشأن.


وغني عن البيان؛ أن اختصاص المحكمة الدستورية العليا محصور في الرقابة على مدى موافقة كلمن القانون واللائحة للدستور،

أما الرقابة على قانونية اللائحة فتظل من اختصاص قاضي الموضوع، فإذا دفع أمامه بعدم شرعية اللائحة لمخالفتها للقانون وتبين له صحة الدفع امتنع عن تطبيق اللائحة في الواقعة المعروضة.


تطبيقات المحكمة الدستورية العليا لمبدأ انفراد التشريع بمسائل التجريم والعقاب:


بالنسبة لتجاوز السلطة التنفيذية لحدود التفويض التشريعي الممنوح لها بالمخالفة للدستور، فقد وضعت المحكمة الدستورية العليا قاعدتين في بيان حدود اختصاص السلطة التنفيذية بالتشريع عن طريق اللائحة:


القاعدة الأولى: عدم دستورية التفويض التشريعي الشامل:


التفويض التشريعي الشامل، سواء في التجريم أو في العقاب محظور دستورياً، فما يجوز التفويض فيه يقتصر فقط على بعض الجوانب فيهما، وذلك حين تقتضيه ضرورة أو تدعو إليه مصلحة ظاهرة.


وهو ما أكدته المحكمة الدستورية العليا حين قضت بعدم دستورية البند الحادي عشر من ثالثاً من الجدول المرفق بالقانون رقم (24) لسنة 1999 بفرض ضريبة مقابل دخول المسارح وغيرها من محال الفرجة والملاهي. إذ قدَّرت المحكمة أن :

المشرع بعد أن ضمن البنود 1 ، 2 من أولاً، والبنود 1 ، 2 ، 3 من ثانياً، والبنود من 1 إلى 10 من ثالثاً من الجدول المرفق بالقانون رقم (24) لسنة 1999، تحديداً دقيقاً للأماكن والأنشطة الخاضعة لضريبة الملاهي، معيناً ماهية كل منها بعبارات واضحة لا يشوبها لبس أو غموض،

وكذا فئة الضريبة المستحقة عليها، أورد في البند الحادي عشر من ثالثاً من هذا الجدول نصاً عاماً مطلقاً، أخضع بمقتضاه لتلك الضريبة سائر الأماكن الأخرى التي يباشر فيها أي نشاط ترفيهي أو للتسلية وقضاء الوقت، وحدد لها جميعاً فئة ضريبة موحدة قدرها (20) في المائة من مقابل الدخول،

دون تحديد واضح قاطع لتلك الأماكن والأنشطة على نحو يتحقق به إحاطة الممولين بالعناصر التي تقيم البنيان القانوني لهذه الضريبة على نحو يقيني جليّ، مكتفياً في ذلك بالنص على أن يكون النشاط الذي يباشر بتلك الأماكن ترفيهياً أو للتسلية وقضاء الوقت، على الرغم من تعدد هذه الأماكن وتلك الأنشطة واختلافها.

بما مؤداه أن يكون تحديد كل ذلك طليقاً بيد القائمين على تنفيذ هذه النصوص، ويعد في حقيقته إعراضاً من جانب السلطة التشريعية عن مباشرة ولايتها الأصلية في تحديد نطاق هذه الضريبة وقواعد سريانها،

ونقل مسئولياتها إلى السلطة التنفيذية وتفويضها في ذلك، بما يمس بنيان الضريبة التي فرضها القانون، ويشرك تلك السلطة في إنشائها وتغيير أحكامها، وهو المجال المحجوز للسلطة التشريعية دون غيرها، ليغدو النص الطعين مصادماً للدستور.


وقد اعترف المجلس الدستوري الفرنسي بحق السلطة التنفيذية في ممارسة التشريع خارج نطاق الجرائم والجنح الذي تتضمنه المادة (34) من الدستور الفرنسي.

فقضى بعدم دستورية التشريع الذي يحيل إلى مرسوم (لائحي) لتحديد تاريخ العمل بهذا التشريع فيما نص عليه من إلغاء أحد مواد قانون الضرائب، باعتبار أنه لا يجوز للتشريع أن يعهد إلى السلطة التنفيذية بتحديد القواعد المتعلقة بتطبيق نصوصه.


القاعدة الثانية: ضرورة التزام السلطة التنفيذية بصاحب الصفة الموجه إليه التفويض التشريعي:


إذا حدد التشريع - أثناء منحه التفويض التشريعي بإصدار اللائحة - أحد أعضاء السلطة التنفيذية بصفته، فإنه يترتب على ذلك ضرورة التزام صاحب هذه الصفة بممارسة دوره في إصدار اللائحة، وعدم تفويض غيره في إصدارها،

كما لا يجوز لغيره أن يقتحم مجال التفويض الممنوح لصاحب الصفة من أعضاء السلطة التنفيذية.

وتأكيداً لذلك؛ قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية البند (ب) من المادة (10) من قرار محافظ السويس رقم (75) لسنة 1985، لأنها تضمنت عقوبات يختص بإصدارها وزير التموين، في حين صدرت هذه العقوبات عن المحافظ وهو غير مخاطب بالتفويض التشريعي الوارد بالمرسوم بقانون رقم (95) لسنة 1945 الخاص بشئون التموين، ورأت المحكمة أنه:

" لما كان المشرع قد خوَّل وزير التموين اتخاذ كل أو بعض التدابير المنصوص عليها في المرسوم بقانون رقم (95) لسنة 1945، والمرسوم بقانون رقم (163) لسنة 1950، وكان المشرع قد عهد إلى وزير التموين - في نطاق التدابير التي يتخذها لضمان تموين البلاد من المواد والسلع وتحقيق العدالة في توزيعها مع الالتزام بجداول الأسعار الخاصة بها - بسلطة تقرير عقوبات على مخالفة القرارات التي يتخذها في هذا الصدد تكون أقل من تلك المنصوص عليها في القانون.

فإن ما تضمنه البند (ب) من المادة (10) من قرار محافظ السويس رقم (75) لسنة 1985 المشار إليه من تقرير عقوبة على الشروع في نقل الأسماك داخل محافظة السويس وخارجها بغير تصريح من مديرية التموين لا يعدو أن يكون انتحالاً لاختصاص مقرر لوزير التموين في شأن التدابير التي ينفرد باتخاذها على مقتضى ما تقدم،

وتقريراً لعقوبة على مخالفة القيود التي فرضها هذا القرار في شأن نقل الأسماك من جهة إلى أخرى أو الشروع في ذلك، وهي عقوبة لا يملك تقريرها إلا وزير التموين.


ولذات الأسباب، قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص المادة الثانية من قرار محافظ سوهاج رقم (33) لسنة 1985،

لأن " تجريم المادة الثانية من القرار المطعون عليه الصادر من محافظ سوهاج للواقعة محل الاتهام الجنائي - وهي حيازة وتخزين محصول السمسم بالمخالفة للحظر المنصوص عليه بالمادة الأولى من القرار - لا يعدو أن يكون انتحالاً لاختصاص مقرر لوزير التموين في شأن التدابير التي ينفرد باتخاذها وفقاً لأحكام كل من المرسوم بقانون رقم (95) لسنة 1945 والمرسوم بقانون رقم (163) لسنة 1950، واغتصاباً لسلطته في هذا المجال.


كما قضت المحكمة أيضاً، بعدم دستورية قرار محافظ بنى سويف رقم (128) لسنة 1980، والمعدل بقراره رقم (107) لسنة 1985، الصادر تنفيذاً للقانون رقم (106) لسنة 1976 في شأن توجيه وتنظيم أعمال البناء،

إذ أن المادة (29) من القانون المذكور كانت تخول وزير الإسكان والتعمير سلطة إصدار قرارات يعدل بها النطاق المكاني لسريان أحكام هذا القانون، بينما صدرت هذه القرارات من المحافظ، وأحيل بعض الأشخاص للمحاكمة الجنائية تأسيساً على مخالفة تلك القرارات، مما اعتبرته المحكمة انتحالاً لسلطة التشريع من جانب المحافظ بالمخالفة لأحكام الدستور.

 

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -