ط
أخر الاخبار

تقنين قواعد حقوق الإنسان بشأن العقوبة الجنائية في مصر وفرنسا وأمريكا

حقوق الإنسان:


إذا كانت حقوق الإنسان تتناول معظم جوانب حياة الفرد، فإن الميدان الذي يبلغ فيه الاهتمام بحقوق الإنسان ذروته هو ميدان العدالة الجنائية (ولاسيما العقوبة الجنائية). لأنه الميدان الذي يتعرض فيه الإنسان للمساس بحياته أو حريته أو شرفه واعتباره.

حقوق الإنسان في القانون الجنائي, حقوق الانسان ف فرنسا, القانون الجنائي ومبادئ حقوق الانسان, اعتبارات حقوق الانسان في العقوبة الجنائية
القانون الجنائي وحقوق الإنسان


وقد انتقلت حقوق الإنسان - محمَّلة بضرورة الحفاظ على كيان الإنسان وكرامته من العقوبات القاسية والمهينة - من إطار مبادئ القانون الطبيعي والضمير الإنساني إلى مرحلة جديدة من الوجود القانوني قوامها طابع الإلزام للدول ككيانات قانونية، مجتمعة أو منفردة.


البعد الدولي لقيم حقوق الإنسان في مجال العقوبات الجنائية:


فاتخذ مبدأ إنسانية العقوبة الجنائية بعداً دولياً خلال القرن العشرين من خلال عدد من الاتفاقيات والعهود والمواثيق والاعلانات الدولية، سواء ما يحمل منها طابع الإلزام للدول الأطراف كالاتفاقيات، أو ما يقدم نوعاً من التوجيه والإرشاد.


ومن دعائم الأساس الدولي لمبدأ حظر العقوبات القاسية والمهينة؛ المادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عن منظمة الأمم المتحدة في 10 ديسمبر لسنة 1948، والتي نصت على أنه:

" لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة ".

وهي ذات المادة التي تكررت بذات الصياغة في نص المادة السابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، النافذ اعتباراً من مارس لعام 1976.


ومن ذلك أيضاً: اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، المعتمدة بقرار الأمم المتحدة رقم 39/46 في 10 ديسمبر لعام 1984، والتي اعتبرت توقيع العقوبات القاسية واللاإنسانية، جريمة تعذيب عرفتها في مادتها الأولى بأنها:


" أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسدياً كان أم عقلياً، يُلحق عمداً بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث، أو تخويفه أو إرغامه هو أو شخص ثالث.


أو عندما يُلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أياً كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية.


ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات، أو الذي يكون نتيجة عرضية لها ".


ثم جرَّمت في مادتها السادسة عشرة صور العقوبات القاسية واللاإنسانية التي لم تصل إلى حد التعذيب كما عرفته المادة الأولى السابق بيانها، وذلك بقولها:


" تتعهد كل دولة طرف بأن تمنع، في أي إقليم يخضع لولايتها القضائية حدوث أي أعمال أخرى من أعمال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي لا تصل إلى حد التعذيب كما حددته المادة (1)، عندما يرتكب موظف عمومي أو شخص آخر يتصرف بصفة رسمية هذه الأعمال أو يحرض على ارتكابها، أو عندما تتم بموافقته أو بسكوته عليها.


وتنطبق بوجه خاص الالتزامات الواردة في المواد (13،12،11،10) وذلك بالاستعاضة عن الإشارة إلى التعذيب بالإشارة إلى غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة ".


وذلك بالإضافة إلى العديد من الاتفاقيات الدولية والعهود والمواثيق التي أكدت على مبدأ إنسانية العقوبة، والتي تكتسب - مبدئياً - صفة الإلزام باعتبار أن الغالبية العظمى من الدساتير المعاصرة تنص صراحة على احترام الاتفاقيات الدولية التي توقع عليها الدول.


حقوق الإنسان لا تحتاج إلى نصوص قانونية صريحة لإقرارها:


كما استقر الفقه على أن كل ما يتعلق بحقوق الإنسان إن لم يجد اعتناقاً صريحاً في نصوص الدستور، فإن القضاء الدستوري يتخذه معياراً لاستخلاص الحقوق والحريات التي تتمتع بقيمة دستورية استناداً إلى متطلبات كل من النظم الديمقراطية وسيادة القانون.


فالدساتير حين شرعت استهدفت حماية الحقوق والحريات، والمحاكم الدستورية حين أسست استهدفت بالدرجة الأولى ضمان هذه الحماية.


ومن ثم؛ فإنه ما لم ينص الدستور صراحة على اعتبار قواعد القانون الدولي المتعلقة بحقوق الإنسان ذات قيمة دستورية، كما هو الشأن بالنسبة للدستور الألماني، فإنه يمكن اعتبار هذه القواعد من حيث استهدافها حماية الحقوق والحريات ضمن القواعد الدستورية.


النصوص الدستورية تؤكد على احترام مبادئ حقوق الإنسان:


وأخيراً، تأكد مبدأ إنسانية العقوبة الجنائية، وعدم جواز إقرار الدولة لعقوبات قاسية أو مهينة لكرامة الإنسان بموجب النصوص الدستورية للدول.


ليكتسب مبدأ إنسانية العقوبة صفة الإلزام بموجب النظام القانوني الداخلي، في خطاب صريح من السلطة التأسيسية للدولة، يحظر على كافة السلطات في هذه الأخيرة تجاوز مبدأ إنسانية العقوبة الجنائية.


ليخرج المبدأ من نطاق حقوق الإنسان التي تفرضها قواعد الشرعية الدولية، إلى نطاق الحقوق والحريات الأساسية التي تكتسب صفة الإلزام في مواجهة سلطات الدولة الداخلية.


فالدستور المصري لعام 2014 يقرر في ديباجته أن:

" الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية حق لكل مواطن ". واستهل بابه الثالث الذي يحمل عنوان " الحقوق والحريات والواجبات العامة "، بالمادة (51) التي قررت أن: " الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها ".


ثم أعلن الدستور صراحة مبدأ إنسانية العقوبة الجنائية، مقرراً حظر العقوبات القاسية أو المهينة لكرامة الإنسان، بل وجعل من مخالفة المبدأ جريمة يعاقب عليها القانون وفقاً لنص المادة (55) من الدستور التي قررت أن:

" كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنياً أو معنوياً.

ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا في أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانياً وصحياً، وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة. ومخالفة شيء من ذلك جريمة يعاقب مرتكبها وفقاً للقانون ".


وأتمَّ الدستور الحماية الواجبة لمبدأ إنسانية العقوبة الجنائية بمقتضى ما جاء بنص المادة (56) منه التي قررت أن: " تخضع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي، ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان ".


والواقع؛ أن مبدأ إنسانية العقوبة الجنائية قد شهد تكريساً نظرياً غير مسبوق في نصوص دستور2014، في انتظار إيجاد المجال الحقيقي للمبدأ في الواقع العملي.


حقوق الإنسان في مجال القانون الجنائي:


والحقيقة أنه لم يعد المشرع الجنائي مطالباً بدور تشريعي مباشر تجاه المبدأ في الوقت الحالي، إذ لا وجود تقريباً لعقوبات قاسية أو مهينة أو عقوبات يتضمن تنفيذها إذلالاً للمحكوم عليهم في مدونات قانون العقوبات الحديثة.


وإنما دوره الحقيقي لإعمال المبدأ هو وضع قواعد قانونية لتفعيل المبدأ من خلال آليات تنفيذ العقوبات الجنائية، من حيث دقة اختيار القائمين على تنفيذ العقوبات وإيجاد سبل فعالة للرقابة على تصرفاتهم تجاه المحكوم عليهم.


وتمكين أي شخص تمتهن كرامته وهو في وضع الخضوع والإذعان للدولة أثناء تنفيذ العقوبة من اقتضاء حقه، كما يجب أن تفرض هذه القواعد، مستوى إنساني مقبول لأماكن تنفيذ العقوبات يسمح بتطبيق برامج إصلاح " حقيقية " على المحكوم عليهم.


حقوق الإنسان في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية:


أما النظامان الأمريكي والفرنسي فقد عرفا مبدأ إنسانية العقوبة وضرورة اتساقها مع مبادئ حقوق الإنسان في وقت متقدم من التاريخ القانوني لحقوق الإنسان.


فإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في فرنسا عام 1789 قرر في مادته الثامنة أن: " القانون لا يقر إلا العقوبات اللازمة والضرورية "، وأعقبها بالمادة التاسعة التي قررت أن:

" جميع الأفراد أبرياء حتى تثبت إدانتهم، وإذا ما استدعى الأمر القيام بعملية اعتقال، فلابد من تجنب أي قسوة أثناء تنفيذها، وكل إخلال بذلك يجب محاسبته بصرامة ".


وكذلك ينص التعديل الثامن للدستور الأمريكي الذي تم التصديق عليه في عام 1791 على أنه:

" لا يجوز المطالبة بدفع كفالات مبالغ فيها، أو فرض غرامات زائدة عن الحد المعقول، أو توقيع عقوبات قاسية أو غير مألوفة ".


واتساقاً مع ذلك، عبرت المحكمة الدستورية العليا عن مبدأ إنسانية العقوبة بضرورة أن تكون الوسائل التي يسيطر بها المشرع الجنائي على سلوك الأفراد " يمكن قبولها اجتماعياً ". 


وكذلك قولها في شأن العقوبة الجنائية أن: " الأصل في العقوبة هو معقوليتها، بحيث لا يكون التدخل بها إلا بقدر لزومها، نأياً بها أن تكون إيلاماً غير مبرر يؤكد قسوتها في غير ضرورة ".


كما قضت المحكمة الدستورية بأنه: " كلما كان الجزاء الجنائي بغيضاً أو عاتياً، أو مجافياً بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسباً مع الأفعال التي أثمها المشرع، فإن هذا الجزاء لا يكون كذلك مبرراً.


ذلك أن السلطة التي يملكها المشرع في مجال التجريم، حدها قواعد الدستور، فلا يجوز أن يؤثم المشرع أفعالاً في غير ضرورة اجتماعية، ولا أن يقرر عقوباتها بما يجاوز قدر هذه الضرورة ".


حقوق الإنسان وفاعلية العقوبة الجنائية:


لا يجب أن يغيب عن الأذهان أن الإفراط والقسوة المحظورة في العقوبة الجنائية هي تلك التي تجاوز الإيلام المقبول للجزاء الجنائي الذي تتحقق به أغراض العقوبة، ويرتبط بطبيعته كجزاء.


لأن مبادئ حقوق الإنسان - بصفة عامة - إن تمادت بلا توقف لصالح المحكوم عليهم أفقدت العقوبة الجنائية سطوتها وبالتالي وظيفتها المرجوة. وهو ما أكدته المحكمة الدستورية حين قالت أن:

" ما يعتبر جزاءً جنائياً، لا يجوز أن يقل في مداه عما يكون لازماً لحمل الفرد على أن ينتهج طريقاً سوياً، لا تكون الجريمة دخلاً إليه، ولا يكون ارتكابها في تقديره - إذا ما عقد العزم عليها - أكثر فائدة من تجنبها ".


وقد عني المجلس الدستوري الفرنسي بالتأكيد الدائم على مبدأ إنسانية العقوبة الجنائية، والتزامها بضوابط حفظ كرامة الإنسان وتجنب القسوة والإفراط.


واستند في ذلك إلى المادة التاسعة من إعلان الحقوق، كما استند إلى ديباجة دستور 1946 حينما قرر أن هناك حقوقاً للإنسان تعتبر مقدسة وغير قابلة للتصرف، وفي مقدمتها كرامة الإنسان ضد الامتهان أو الاستعباد أو الإذلال.


وألزم المجلس الدستوري المشرع الجنائي بمراعاة هذا المبدأ لأن له قيمة دستورية بالغة وأساسية، لاسيما من خلال إنفاذ أحكام السجن.


أحكام المحكمة العليا الأمريكية بشأن حقوق الإنسان في مجال العقوبات:


ولطالما انتصرت المحكمة العليا الأمريكية لصالح المحكوم عليهم ضد العقوبات القاسية والمفرطة، بل وبالغت في ذلك فاعتبرت أن عقوبة الإعدام التي تقررها ولاية جورجيا على جريمة اغتصاب البالغات تعد عقوبة مفرطة.


كما حظرت توقيع عقوبة الإعدام على القُصّر، وقررت أن توقيع عقوبة السجن مدى الحياة على القاصرين في غير جرائم القتل دون إمكانية الإفراج المشروط يشكل عقوبة قاسية وينتهك التعديل الثامن للدستور الأمريكي.


ثم أعلنت المحكمة العليا الأمريكية ذات القاعدة بشأن جرائم القتل التي ترتكب من الأحداث، ومهما كانت جسامة الجريمة.


كما قررت المحكمة العليا الأمريكية أن إسقاط الجنسية عن الشخص الهارب من تأدية الخدمة العسكرية يمثل عقوبة قاسية يحظرها التعديل الثامن للدستور.


كما سبق وأن قضت المحكمة العليا الأمريكية بأن عقوبة السجن لمدة خمسة عشر عاماً مع الأشغال الشاقة في جرائم التزوير للوثائق، تشكل عقوبة قاسية جداً.


وقضت المحكمة ذاتها في أكثر من قضية؛ بأن تنفيذ عقوبة الإعدام على شخص مجنون فاقد لقواه العقلية، لا يتذكر جريمته، ولا يـفهم مـعنى وهـدف عـقـوبة الإعـدام، يـشكـل عـقـوبة قـاسية تـنـتـهك الـتعديل الثـامن للدستور الأمريكي.


وفى المقابل؛ قضت المحكمة العليا في عام 1897بأن فرض غرامة مالية قدرها خمسة آلاف دولار في اليوم الواحد على إحدى شركات النفط، لا يمثل عقوبة مفرطة ولا ينتهك التعديل الثامن لأن أرباح الشركة كبيرة للغاية.


كما قضت بأن تنفيذ عقوبة الإعدام باستخدام وسيلة الحقن المميت وإن تسبب في حدوث بعض الألم بطريقة عرضية أو كنتيجة حتمية للموت، فإنه لا يرقى إلى الإيذاء الذي لا يطاق المحظور بمقتضى التعديل الثامن.


وقضت أيضاً بأن عقوبة الإعدام التي تقررها ولاية Kansas لا تناقض التعديل الثامن للدستور الأمريكي، ولا تعتبر عقوبة قاسية إذا تساوت في نظر المحكمة العوامل المخففة والمشددة للعقوبة.


كما قضت بأن توقيع عقوبة السجن المؤبد مع إمكانية الإفراج المشروط على من ارتكب جريمة من جرائم الاحتيال للمرة الثالثة، لا يعد عقوبة مفرطة تخالف التعديل الثامن، وإنما "حكم تشريعي عقلاني" في مواجهة المجرمين العائدين.


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -