ط
أخر الاخبار

الصفات الخاصة للنصوص الجنائية : مبدأ تحديد نصوص القانون الجنائي

مبدأ تحديد نصوص القانون الجنائي:


تكلمنا في مقال سابق عن مبدأ وضوح نصوص التجريم والعقاب وكيف يمكن أن يكون النص الجنائي غامضاً. ويتناول الموضوع التالي مبدأ تحديد نصوص القانون الجنائي باعتباره مكملاً للمبدأ الأول ومفترضاً أساسياً تبنى عليه الشرعية الدستورية للقانون الجنائي.


الصفات الخاصة لنصوص القانون الجنائي, تحديد النص الجزائي, خصائص القاعدة الجنائية, الصفات الخاصة لقانون العقوبات
الصفات الخاصة للنصوص الجنائية : مبدأ تحديد نصوص القانون الجنائي


وذلك من خلال الإجابة عن التساؤلات التالية:

  1. ما هو مفهوم مبدأ تحديد نصوص التجريم والعقاب؟
  2. متى يكون النص الجنائي غير محدد المضمون؟
  3. هل يجوز التجريم والعقاب اعتماداً على تحقق النتيجة أو الأثر؟
  4. هل يجوز استخدام المشرع القرائن القانونية في التجريم والعقاب؟
  5. هل تجوز الإحالة في التجريم والعقاب؟
  6. تطبيقات المحكمة العليا الأمريكية والمجلس الدستوري الفرنسي للمبدأ.

ويأتي مبدأ تحديد نصوص التجريم والعقاب في مقدمة مبادئ الشرعية الموضوعية لقانون العقوبات، فإذا كان للمشرع حريته أو سلطته في تحديد الفعل المجرم، فتلك الحرية مقيدة باحترام أسس التجريم الجنائي والتي من أبرزها: بيان أركان الجريمة بشكل محدد وصريح.


" فإن كان للمشرع أن ينظم أي شيء، فليس من سلطته أن يفعل أي شيء "

وقد أرسى المجلس الدستوري الفرنسي مبدأ هاماً في هذا الصدد حيث فرض على المشرع حال تصديه لتجريم أي سلوك، أن يلتزم بتحديد الجرائم في كلمات واضحة وصريحة بدرجة كافية، يستبعد معها كل تحكم في التفسير.


كيف يكون النص الجنائي واضحاً ومحدداً؟


ويجب على المشرع أن يصدر نصاً يكتمل داخله مضمون القاعدة الجنائية، التي يجب أن تتضمن "نماذج" للسلوك المحظور جنائياً، فإذا ارتكبه المكلف بالقاعدة الجنائية، ترتب على ذلك ألا يخلع المشرع صفة المشروعية على المصلحة التي اتجه هذا السلوك إلى تحقيقها.

ويتضمن كل " أنموذج " قانوني وصفاً دقيقاً للسلوك محل التجريم، يعيِن به المشرع الشكل الذي يجب أن يأخذه السلوك، والمميزات الداخلية والخارجية التي تميزه عن غيره.


وفى عبارة أخرى يضمِّن المشرع القاعدة الجنائية، وعلى الأخص شق التكليف فيها، أنموذجاً " مجرداً " يحدد السلوك المحظور بطريقة مجردة، وذلك بأن يحشد بقدر المستطاع الخطوط الجوهرية التي تشترك فيها جميع الأفعال التي تؤلف بينها طبيعة واحدة مشتركة.

بحيث يتجه المشرع من خلال شق التكليف إلى المخاطب بالقاعدة الجنائية ليمنعه أو ليحظر عليه ارتكاب الفعل الذي يطابق التكليف.


ثم يأتي الشق الآخر في القاعدة الجنائية والمتمثل في العقوبة الجنائية التي توقع على من خالف شق التكليف، إن كان أهلاً لتحملها.

وعلى المشرع أن يحدد في وضوح تام طبيعة ومدى العقوبات التي يضعها للجرائم، لأن عدم الوضوح في تحديد العقاب أهم بكثير من عدم الوضوح في تحديد الفعل المجرم نفسه.


القاعدة الجنائية لابد أن تقدم حلاً لمشكلة يثيرها النص العقابي:


كما تقتضي صفة التحديد في نصوص التجريم والعقاب أن كل قاعدة جنائية يجب أن تنطوي على حل لمشكلة يثيرها النص.

فكل قاعدة تتضمن بالضرورة الإجابة على سؤال ورد بها، فإذا ورد السؤال وانتفت الإجابة عليه أو كانت هذه الإجابة غير واقعية أو تسمح بالتأويل والاستنتاج كان النص غير محدد.


لذا؛ فإن المشكلة التي تثيرها القاعدة الجنائية هي إتيان المخالف للسلوك المنهي عنه بما يشكل اعتداء على المصلحة المحمية، وحل المشكلة يتمثل في الجزاء الجنائي الذي يوقع على المخالف جبراً للضرر الذي ألحقه بالمصلحة المحمية واستقضاءً للحقوق الفردية وحق المجتمع في أمنه واستقراره.

ومن هنا؛ يجب على المشرع على سبيل الإلزام تحديد شقي التكليف والجزاء بالقاعدة الجنائية بأقصى درجات الدقة الممكنة.


كيف يكون نص التجريم والعقاب غير محدد ومنفلت المضمون؟


ووصفت المحكمة الدستورية العليا عدم تحديد نصوص التجريم والعقاب بقولها أن:

" النصوص العقابية قد تتسم بتميعها من خلال اتساعها وانفلاتها، وهي تكون كذلك إذا كانت - بالنظر إلى المعنى المعتاد لعباراتها - لا تنحصر في تلك الأفعال التي يجوز تأثيمها وفقاً للدستور، بل تجاوزها إلى أفعال رخص بها الدستور أو كفل صونها بما يحول دون امتداد التجريم إليها ".


وهو ما سبق وأن أكدته المحكمة بقولها أنه: " يجب دوماً ألا تكون القوانين الجزائية مجرد إطار لتنظيم القيود على الحرية الشخصية بل ضماناً لفاعلية ممارستها، وعليه؛ فإن شرط تحديد عناصر التكليف للقاعدة الجنائية ما هو إلا شرط أولي يصون الحرية الفردية التي أعلى الدستور قدرها ".


كما أوضحت المحكمة أن: " الأصل في النصوص العقابية أن تصاغ في حدود ضيقة تعريفاً بالأفعال التي جرمها المشرع، وأن تكون هذه الأفعال محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وأن تكون تلك القوانين جلية واضحة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها ".


وكان من بين أسباب الحكم بعدم دستورية المادة (48) من قانون العقوبات بشأن جريمة الاتفاق الجنائي أن: " نطاق التجريم واسعاً فضفاضاً " مما أفقده صفة التحديد.


هل التجريم والعقاب اعتماداً على الأثر أو النتيجة يفقد النص الجزائي صفة التحديد؟


وقد يلجأ المشرع إلى تحديد السلوك المجرَّم بأثره أو النتيجة المترتبة عليه، وقد أقرت المحكمة الدستورية العليا هذا المسلك من جانب المشرع حين رفضت الطعن على دستورية المادة (151) من قانون الزراعة رقم (53) لسنة 1966.


وذلك لكون التجريم الوارد بها يتسم بعدم التحديد، إذ عاقبت على كل فعل او امتناع من شأنه تبوير الأرض الزراعية أو المساس بخصوبتها، دون تحديد لماهية هذه الأفعال، ورأت المحكمة أن النص براء من شبهة عدم التحديد، وأن التجريم الوارد به محدد بالنظر إلى تحقق النتيجة المؤثَّمة.


ولا شك أن هذا المسلك في التجريم يدعو إلى عدم الارتياح، لاسيما بالنسبة لجرائم الجنايات، فقد ذهب بعض الفقه - وبحق - إلى انتقاد أسلوب التجريم بالنظر إلى تحقق النتيجة دونما تحديد دقيق للأفعال المجرمة.


ومن ذلك: نص المادة (116 مكرر) من قانون العقوبات التي تنص على أن:

" كل موظف عام أضر عمداً بأموال أو مصالح الجهة التي يعمل بها أو يتصل بها بحكم عمله، أو بأموال الغير أو مصالحهم المعهود بها إلى تلك الجهة يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة، فإذا كان الضرر الذي يترتب على فعله غير جسـيم جاز الحكم عليه بالسجن ".


وهي بذلـك تعـاقب على النـتيـجة وهي " الضـرر" دونما تحديد دقـيق للـركن المادي في هذه الجريمة. بل ونعتقد أن هذه النتيجة في ذاتها ليست محددة بشكل دقيق، فأول ما يتبادر إلى الذهن هو التساؤل عن طبيعة هذا الضرر، ومداه، والصور التي يمكن أن يتخذها.


وذلك لتبرر التدخل بالتجريم الجنائي وتقرير عقوبة قاسية كالواردة بالمادة (116) عقوبات سالفة الذكر، فهذا الإضرار بأموال ومصالح الجهات الحكومية أو المتعاملين معها قد يتخذ صوراً لا حصر لها تتدرج فيها درجة الإذناب من الفاعل، والجسامة في الفعل، من أدناها لأقصاها.


هل تجوز الإحالة في التجريم والعقاب؟


ومن الأساليب التشريعية المنتقدة في تحديد العقوبة إحالة النص التشريعي فيما يتعلق بعقوبة جريمة معينة إلى عقوبة جريمة أخرى، كأن ينص المشرع على المعاقبة على جريمة الشيك بدون رصيد مثلاً بالعقوبة المقررة لجريمة النصب.


فتظهر الصعوبات عندما يتم تعديل عقوبة جريمة النصب مثلاً دون أن يفطن المشرع إلى تعديل النص الآخر.


عدم دستورية التجريم عن طريق القرائن القانونية:


كما أنكرت المحكمة الدستورية العليا على المشرع الجنائي مذهبه في التجريم من خلال إحلال قرائن قانونية محل توافر أركان الجريمة كما تتطلبها مقتضيات الشرعية الموضوعية لقانون العقوبات، ومن ذلك قضائها بعدم دستورية المادة (121) من قانون الجمارك رقم (66) لسنة 1963.


وذلك فيما تضمنته من افتراض العلم بتهريب البضائع الجمركية إذا لم يقدم حائزها بغرض عرضها للبيع الدليل على أنه تم سداد الضريبة الجمركية عنها، إذ أحلت المادة المذكورة قرينة قانونية قوامها "واقعة " عرض بضائع أجنبية مهربة للبيع، وأحلتها محل عنصر " العلم " اللازم لقيام القصد الجنائي في جريمة التهرب الجمركي.


ومن ذلك أيضاً: حكمها بعدم دستورية نص الفقرة الثالثة من المادة (154) من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم (53) لسنة 1966 فيما تضمنته من افتراض القصد الجنائي بالنسبة لكل من يملك أو يحوز أو يبيع أو يشتري أتربة متحصلة عن تجريف للأرض الزراعية، وافترضت علمه بالوقائع المؤثَّمة بالقانون وعاقبته بناء على ذلك.


كما أنكرت المحكمة الدستورية على المشرع الجنائي استخدام قرينة قانونية قوامها " صفة في المتهم " يفترض بها علمه بعناصر الجريمة، ومن ذلك:

  1. قضائها بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من البند (1) من المادة الثانية من القانون رقم (48) لسنة 1941 بقمع التدليس والغش قبل تعديلها بالقانون رقم (281) لسنة 1994.
  2. وحكمها بعدم دستورية المادتين (58) من المرسوم بقانون رقم (95) لسنة 1945 الخاص بشئون التموين، و (15) من المرسوم بقانون رقم (163) لسنة 1950 الخاص بالتسعير الجبري وتحديد الأرباح. بالإضافة إلى العديد من الأحكام التي أنكرت التجريم باستخدام القرائن القانونية.


وقد قضى المجلس الدستوري الفرنسي بأن الأحكام الجنائية الواردة بأي قانون لا تخالف مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات طالما تم التعبير عنها بمصطلحات على درجة كافية من الدقة سواء أشارت إلى تلك الأحكام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.


مبدأ تحديد نصوص القانون الجنائي في قضاء المحكمة الأمريكية العليا:


وفي ذات الاتجاه، قررت المحكمة العليا الأمريكية أن: " التشريع إذا كان ناقصاً وغير محدد في عباراته وفي المدلول الذي يمكن أن يفسر به بحيث يقصر عن تحديد الأفعال التي يعاقب عليها، فإنه يكون مخالفاً لشرط الوسائل القانونية السليمة.


كما قضت بأن: " النصوص العقابية يجب أن تعرف الفعل المجرم تعريفاً يكفل للشخص العادي أن يفهم ماهية الفعل الذى يحظر الشارع ارتكابه ، وأن يجري النص على هذه الأفعال على نحو لا يؤدي إلى التحكم أو التمييز ".


وقضت المحكمة العليا الأمريكية أيضاً بإبطال نص صادر ضمن قانون عقوبات ولاية كاليفورنيا ينص على تجريم السلوك المخل " Disorderly Conduct " وعرَّف هذا السلوك بأنه:

" كل تسكع أو تجول في الطرقات أو من مكان إلى آخر دون سبب ظاهر أو عمل يقتضي ذلك، أو من يرفض الإفصاح عن شخصيته وتعليل سبب تواجده حينما يطلب منه رجل الشرطة ذلك ".

إذا كانت الظروف المحيطة بمثل هذا الشخص تدل وفقاً للشخص المعتاد أن السلامة العامة تتطلب هذا الإيضاح.


وقد رأت المحكمة أن هذا النص لا ينطوي على معيار يمكن للشخص العادي أن يحدد بمقتضاه ما الذي يجب عليه فعله تنفيذاً لما يتطلبه المشرع منه، ولأن مثل هذا النص يتيح سلطة تقدير واقعية تامة بيد رجل الشرطة ليحدد ما إذا كان الشخص قد أدى ما تطلبه منه القانون من عدمه، وهو ما يشوب نص التجريم بالغموض مما يجعله واجب الإبطال.


وفي قضية Reno v. American Civil Liberties Union عام 1997، قررت المحكمة العليا الأمريكية أن استخدام قانون آداب الاتصالات لعام 1996 لعبارات مثل "غير اللائقة"، "بطريقة مسيئة"، "الأنشطة والأجهزة الجنسية"، قد أصاب القانون بالغموض وعدم التحديد.

وذلك لأنها مصطلحات واسعة ومبهمة بشكل مفرط، وبالتالي، فإن القانون المذكور قد أخفق في تحديد نوعية الاتصالات التي يحظرها.


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -