التناسب بين العقوبة والجريمة وتطبيقات حظر العقوبات القاسية والمفرطة
مبدأ التناسب بين الجريمة والعقوبة:
لـقد أصـبح من أدق
واجـبات المـشرع الجـنائي، أن يـحدد العـقوبة " المنـاسبة " للجريمة
الجنائية، لاسيما وأن التحديد التشريعي للعقوبة يتم بالنظر إلى الوقائع المجردة،
دونما أي تأثر بملابسات وقائع بعينها أو ظروف أشخاص بذواتهم.
التناسب بين العقوبة والجريمة |
في حين تعاظمت أهمية
مبدأ التناسب في الدراسات العقابية إلى حد صيرورته أحد موجبات السياسة الجنائية
الرشيدة، إذ كلما تناسبت العقوبة المقررة مع الجرم المرتكب، كلما زاد ذلك من
القيمة الإقناعية للقاعدة الجنائية بما يكفل تحقيقها لوظيفة الردع المرجوة منها.
ويتناول المقال
التالي مبدأ التناسب بين العقوبة والجريمة وقاعدة حظر العقوبات القاسية أو المفرطة
في قضاء المحكمة العليا الأمريكية والمجلس الدستوري الفرنسي والمحكمة الدستورية
العليا في مصر.
قاعدة حظر العقوبات القاسية والمهينة:
ومن هنا؛ يلتزم
المشرع عندما يختار الجزاء للفعل الذي جرَّمه، بأن يقيم الموازين القسط بين أمور
عدة، حتى يحقق التناسب بين الجريمة والجزاء. حيث ينصرف التناسب هنا بين
محل النص العقابي وسببه.
ومقتضى ذلك ألا يغلو
المشرع في العقاب، ولا يركب متن الشطط في تقديره، وإنما عليه أن يتخير من العقوبات
ما يكون على وجه اللزوم ضرورياً لمواجهة الجريمة، وما يترتب على ارتكابها من آثار،
وما يحقق بها الردع للجاني، وزجر غيره ممن تسول له نفسه القيام بذات فعله.
وكل تجاوز يقع من
المشرع في مجال تقدير العقوبات لهذا الضابط يعد تزيداً، واستبداداً ينبغي رفعه.
حيث أصبح التزام المشرع بتحقيق هذا التناسب في العقاب الجنائي، أصلاً من الأصول
الدستورية الجنائية يقيد سلطة المشرع في تحديد العقوبات.
بعد أن ظل حيناً من الدهر يستأثر بسلطة واسعة في تقديرها، حيث كان له وحده تقدير الضرورة العقابية، والمعقولية الجزائية دون أن يخضع في ذلك لأي رقابة دستورية، بدعوى أن ذلك يعد من الملائمات التشريعية التي يستأثر بها المشرع دون غيره.
دور القضاء الدستوري في تحديد عنصر "التناسب" في العقوبة الجنائية:
وقد حرصت المحكمة
الدستورية العليا في مصر على رقابة مبدأ التناسب بين العقوبة الجنائية والجريمة
التي توقع من أجلها، وسببت به أحكامها صراحة رغم عدم النص عليه مباشرة في الدستور
كغيره من المبادئ الدستورية للجزاء الجنائي مثل مبدأ شخصية العقوبة ومبدأ قضائية
العقوبة.
على سند من أنه لا
يوجد أي مجال للمنازعة في اعتبار مبدأ التناسب بين الجريمة والعقوبة، من أهم
مقومات الشرعية الدستورية للتجريم والعقاب.
كما استخدم المجلس
الدستوري الفرنسي في سبيل تحقيق رقابة التناسب بين الجريمة والعقوبة نص المادة
الثامنة من إعلان الحقوق التي تحظر على القانون أن يفرض إلا العقوبات "
اللازمة والضرورية ".
ودعم قضاء المحكمة
العليا الأمريكية رقابته لعنصر التناسب بالتعديل الثامن للدستور الأمريكي الذي
يحظر العقوبات القاسية والغرامات المبالغ فيها.
بل وتأكد المبدأ في
قضاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، إذ قررت في أحد أحكامها الهامة في
هذا الصدد، بأن العقوبة يجب أن تقدر تقديراً متناسباً مع الجريمة، كما يجب أن يؤخذ
في الاعتبار عند تقديرها لجسامة الجريمة وطبيعتها.
دور القاضي الدستوري في تحديد تناسب العقوبة مع الجريمة:
ويقوم القاضي
الدستوري أثناء رقابته لعنصر التناسب في التشريعات بعملية موازنة دقيقة جداً بين
الوسائل المستخدمة، والأهداف المطلوبة من وراء استخدام مثل هذه الوسائل، ومدى
تحقيق التناسب بين هذه وتلك.
ومدى مساس ذلك
بالحقوق والحريات الفردية التي تضمنها الدستور ونص على صونها وحمايتها، ومدى جواز
أو عدم جواز مثل هذا المساس، وما إذا كان ذلك في الحدود المقبولة أم لا، وعلى ضوء
كل ذلك يحدد القاضي الدستوري قراره ويصدر حكمه.
وفي المجال الجنائي؛
وباعتبار أن الجريمة هي الرابطة السببية التي تربط الفرد بـ الجزاء الجنائي، فلا
عقوبة بغير جريمة يمكن نسبتها إلى شخص ما، فإن العقوبة هي جزاء لابد وأن يتناسب مع
الجريمة، وأن يقدر بقدرها.
وهي لا تكون عادلة
محققة وظيفتها في المجتمع إلا بهذا الشرط؛ وتتميز العقوبة من هذه الوجهة عن
التدبير الاحترازي الذي لا ينظر فيه إلى التناسب بينه وبين الجريمة، وإنما تراعى
فحسب ملائمته لمواجهة الخطورة الاجرامية الكامنة في شخص من ينزل به.
معيار التناسب بين العقوبة والجريمة:
ولا شك في صعوبة
تحديد معيار دقيق وثابت يتحقق به التناسب بين الجريمة والعقوبة. فمن المتصور أولاً
أن يستند معيار التناسب إلى مدى الضرر الذي أحدثته الجريمة في الوسط الخارجي، أي
مدى جسامة الاعتداء الذي حدث على الحق أو المصلحة التي يحميها القانون.
ثم يتقرر الإيلام
بطريقة تتناسب مع جسامة النتيجة التي حدثت دون التفات إلى الإرادة الاجرامية ودرجة
إثمها.
ومن المتصور ثانياً
أن يرجع معيار التناسب إلى مدى الإثم الجنائي أو درجة الخطأ الكامن في إرادة مرتكب
الجريمة، وتقرير الإيلام بقدر يتناسب مع تلك الدرجة، وذلك دون مراعاة للنتائج
المادية التي حدثت في العالم الخارجي ومدى جسامتها.
فرب فعل مادي تافه
يكشف بذاته عن إرادة إجرامية شديدة الإثم، ورب ماديات جسيمة لا تكشف إلا عن قدر
يسير من الخطأ لدى من أتاها.
ومن المتصور أخيراً
أن يجمع معيار التناسب بين الاعتبار الأول، وهو ذو طبيعة موضوعية، والثاني وهو ذو
طبيعة شخصية: فيتغلب الجانب الشخصي في مواجهة طائفة من الجرائم، بينما يرجح الجانب
الموضوعي في مواجهة طائفة أخرى.
والراجح، أن قاعدة
التناسب بين الجريمة والعقوبة توجب أخذ الشقين معاً في الاعتبار عند تقرير عقوبة
الجريمة الواحدة: الشق الموضوعي المبني على جسامة المساس بالمصلحة المحمية من
ناحية، والشق الشخصي المبني على إذناب الجاني من ناحية أخرى.
وهو المعيار الذي
يمكن أن يحقق به المشرع التوازن المطلوب بين إيلام العقوبات والجرائم التي تقرر من
أجلها، كما أنه المعيار الذي اعتمده القضاء الدستوري أثناء تقديره لنجاح المشرع في
إقامة التوازن المطلوب بين الجرائم الجنائية والعقوبات المقررة من أجلها. وذلك على
النحو التالي:
أولاً: عدم دستورية نص المادة (5 مكرراً) من القانون رقم (35) لسنة 1978 في شأن إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية:
كانت المادة
المذكورة تعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين،
كل من زاول عملاً من الأعمال المهنية المنصوص عليها في المادة (2) من هذا القانون،
ولم يكن من المقيدين بجداول النقابة، أو كان ممنوعاً من مزاولة المهنة.
مالم يكن حاصلاً على
تصريح مؤقت للعمل طبقاً للمادة (5) من هذا القانون.
ورأت المحكمة أن:
المشرع عاقب بنص
المادة (5 مكرراً)، غير أعضائها - يقصد النقابة - الذين يقحمون أنفسهم على نشاطها،
دون تصريح منها يخولهم مباشرة بعض جوانبه. وأن التجريم - وباعتباره واقعاً في هذه
الحدود - يتناول في الأعم إعمالاً إبداعية تمثل بمكوناتها عطاءً دافقاً، ونهراً
متجدداً بعناصر الخلق التي تؤثر في بناء الفرد روحياً وعقلياً.
وأن الأصل هو جوازها
لولا القيود المهنية التي فرضها التنظيم النقابي في شأنها. وهي بعد قيود ما كان
ينبغي أن تصل وطأتها إلى حد إنفاذها من خلال جزاء جنائي يقيد الحرية الشخصية
اعتسافاً، مجاوزاً بذلك قدر الضرورة الاجتماعية التي لا يجوز أن يكون بنيان
التجريم منفصلاً عن متطلباتها.
فكان من بين أسباب
الحكم بعدم دستورية المادة المذكورة أن المادة (5 مكرراً) من هذا القانون "
أخلَّت بضرورة أن يقدر المشرع لكل جريمة عقوبتها بما يكفل تناسبها مع الأفعال التي
أثمها ".
ثانياً: عدم دستورية الفقرة الثانية من المادة (48) من قانون العقوبات:
كانت الفقرة الثانية
من المادة (48) من قانون العقوبات تنص على أن:
" كل من اشترك
في اتفاق جنائي سواء كان الغرض منه ارتكاب الجنايات أو اتخاذها وسيلة للوصول إلى
الغرض المقصود منه يعاقب لمجرد اشتراكه بالسجن. فإذا كان الغرض من الاتفاق ارتكاب
الجنح أو اتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود منه يعاقب المشترك فيه بالحبس
".
ورأت المحكمة
الدستورية العليا في حكمها الشهير بعدم دستورية المادة (48) من قانون العقوبات أن:
" الفقرة
الثانية من المادة (48) تقرر عقوبة السجن على الاتفاق الجنائي على ارتكاب جناية،
وكانت عقوبة السجن هي وضع المحكوم عليه في أحد السجون العمومية، ولا يجوز أن تنقص
عن ثلاث سنوات ولا أن تزيد على خمس عشرة سنة إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص
عليها قانوناً،
بينما هناك جنايات
كثيرة حدد المشرع العقوبة فيها بالسجن مدة تقل عن خمس عشرة سنة؛ كما تنص ذات
الفقرة على أن عقوبة الاتفاق الجنائي على ارتكاب الجنح هي الحبس أي وضع المحكوم
عليه في أحد السجون المركزية أو العمومية المدة المحكوم بها عليه وحدها الأدنى
أربع وعشرون ساعة ولا تزيد على ثلاث سنوات إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها
قانوناً،
بينما هناك جنح
متعددة حدد المشرع العقوبة فيها بالحبس مدة تقل عن ثلاث سنوات؛ وهو ما يكشف عن عدم
تناسب العقوبات الواردة في الفقرة الثانية من النص المطعون فيه مع الفعل المؤثم،
فلا شك أنها عقوبات مفرطة في قسوتها تكشف عن مبالغة المشرع في العقاب بما لا يتناسب
والفعل المؤثَّم ".
حظر العقوبات القاسية والمفرطة والمهينة |
وفي المقابل؛ أقرت المحكمة الدستورية بالتناسب الذي أقامه المشرع الجنائي بين العقوبات والجرائم في بعض النصوص العقابية الأخرى، ومن ذلك:
إقرار المحكمة
الدستورية العليا لمذهب المشرع الجنائي في التجريم والعقاب بمقتضى نصوص المواد
(155،151) من القانون رقم (116) لسنة 1983 بتعديل بعض أحكام قانون الزراعة الصادر
بالقانون رقم (53) لسنة 1966.
فبعد أن جرَّم
المشرع بمقتضى نص المادة (151) أي فعل او امتناع من شأنه تبوير أو تجريف الأرض
الزراعية، قرر في المادة (155) من ذات القانون أن:
" يعاقب على
مخالفة حكم المادة (151) من هذا القانون بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه
ولا تزيد على ألف جنيه عن كل فدان أو جزء منه، من الأرض موضوع المخالفة ".
وقدَّرت المحكمة
الدستورية أن:
" التجريم
المقرر بنص الفقرة الثانية من المادة (151) المطعون فيها والذي التزم - على ما
تقدم البيان - حدود الضرورة الاجتماعية التي تبرره، قد اقترن بالجزاء الجنائي
المقرر بنص الفقرة الأولى من المادة (155)، والذي تحدد في عقوبتي الحبس والغرامة
في الحدود التي بينها المشرع،
واللتين فرضهما
المشرع كعقوبة أصلية على اقتراف الأفعال أو الامتناع المبين بنص الفقرة الثانية من
المادة (151) المشار إليه، وكان هذا الجزاء قد وقع بالضرورة في إطار اجتماعي
مستنداً إلى قيم ومصالح اجتماعية تسوغه، باعتباره أسلوباً ملائماً لردع الجناة دون
غلو أو شطط،
ولا يحول بين السلطة
القضائية ومباشرة مهمتها في مجال تفريده، فلا يكون قدره إلا مناسباً لوزن الجريمة
وملابساتها وأحوال مرتكبها ".
وأقرَّت المحكمة
كذلك بدستورية المادة (23) من القانون رقم (136) لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام
الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، والتي تنص في
فقرتها الأولى على أن:
" يعاقب بعقوبة
جريمة النصب المنصوص عليها في قانون العقوبات المالك الذي يتقاضى بأية صورة من
الصور، بذاته أو بالوساطة أكثر من مقدم عن ذات الوحدة أو يؤجرها لأكثر من مستأجر
أو يبيعها لغير من تعاقد معه على شرائها ".
وتنص فقرتها الثانية
على أن:
" يعاقب بذات العقوبة
المالك الذي يتخلف دون مقتض عن تسليم الوحدة في الموعد المحدد فضلاً عن إلزامه بأن
يؤدي إلى الطرف الآخر مثلي مقدار المقدم، وذلك دون إخلال بالتعاقد وبحق المستأجر
في استكمال الأعمال الناقصة وفقاً لحكم الفقرة الأخيرة من المادة (13) من القانون
رقم (49) لسنة 1977 ".
وحينما طعن على
دستورية العقوبات السابقة تأسيساً على عدم تناسبها مع الوقائع المُجرَّمة بالمواد
المذكورة، وغلوها في الجزاء، رأت المحكمة أن:
" جريمة تخلف
المؤجر - دون مقتض - عن تسليم الوحدة المؤجرة تعتبر صورة من صور التدليس تنطوي على
مسلك إجرامي يضر بالقيم والمصالح الاجتماعية ويهدر الثقة المشروعة في المعاملات في
جانب من أهم جوانبها يتمثل في ضرورة توفير المسكن؛
وهو ما استوجب تدخل
المشرع بعقاب فاعله بالعقوبة المقررة لجريمة النصب؛ وذلك أسوة بالنص على عقاب من
تراخى في تسليم وحدة مبيعة لمشتريها، وأن الجزاء المالي المقرر بالفقرة المطعون
عليها وإن تمثل في التزام مؤجر الوحدة السكنية بأن يؤدي إلى من استأجرها مثلي
مقدار المقدم المدفوع،
إلا أن جزاءً على
هذا النحو ليس أمراً فجاً، ولا يتمخض كذلك غلواً، إذ أنه لازم لردع من ينكثون
بعهودهم ". ورفضت المحكمة الطعن على دستورية المادة المذكورة.
كما رأت المحكمة
الدستورية العليا أن عقوبة السجن المؤبد المقررة لجريمة إحراز وحيازة الأسلحة
الآلية هي عقوبة متناسبة مع جسامة فعل الحيازة ولو كانت حيازة مجردة، وذلك لما
تمثله حيازة هذه الأسلحة من خطورة بالغة على الأمن العام.
وقضت أيضاً بأن:
تقرير المادة (74
مكرراً) من قانون المرور الصادر بالقانون رقم (66) لسنة 1973 بعد تعديلها بالمادة
الأولى من القانون (121) لسنة 2008، لعقوبة الغرامة التي لا تقل عن مائة جنيه ولا
تزيد على ثلاثمائة جنيه نتيجة عدم استخدام قائد السيارة ومن يركب بجواره حزام
الأمان أثناء سيرها في الطريق، جاء متناسباً ويخلو من أي سوء تقدير عقابي.
وقررت المحكمة
الدستورية أيضاً؛ أن العقوبات الواردة بنص المادة (133) من قانون الضريبة على
الدخل رقم (91) لسنة 2005 الذي قرر أن:
" يعاقب كل
ممول تهرب من أداء الضريبة بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات
وبغرامة تعادل مثل الضريبة التي لم يتم أداؤها بموجب هذا القانون أو بإحدى هاتين
العقوبتين "، قد جاءت في إطار من التدرج والتناسب والمعقولية.
حيث جاءت عقوبة
الحبس متدرجة بين حدين أدنى وأقصى، لتسمح لقاضي الموضوع بالتدرج في إيقاعها، وفقاً
لما يقدره من خطورة الممول المتهرب، وجسامة ما أتاه من أفعال التهرب.
كما أن عقوبة
الغرامة التي تعادل مثل الضريبة، التي لم يتم أداؤها وفقاً لأحكام القانون، فهي من
المعقولية بمكان، بعد أن صارت جاهــرة بعدالتها، إذ حـرص المشـرع بهذا التقـرير
لعقوبة الغرامة، وفق ذلك التنظيم، أن يؤمن بهـا للخزانة العامـة، المبلغ الذي كان
يتعين على الممول سداده، لو لم يرتكب فعلاً من أفعال التهرب من الضريبة.
التناسب بين الجريمة والعقوبة في قضاء المجلس الدستوري الفرنسي:
وقد اعترف المجلس
الدستوري الفرنسي لنفسه بالحق في الرقابة على ملاءمة ما يصدره المشرع من قوانين
عقابية، باحثاً من خلالها عن نقطة التوازن بين الوسائل التي يتخذها، وبين الغايات
التي يسعى إلى تحقيقها،
وبقدر ما إذا كانت
هذه الوسائل المختارة من بين بدائل عديدة متوافقة مع تلك الغايات أم لا، بقدر ما
يكون التزام المشرع بضابط التناسب، بحيث تكون العقوبة المختارة ضرورية بشكل قاطع
وصريح.
مؤكداً أنه لا يحل
إرادته محل إرادة المشرع في تقدير التناسب بين العقوبات والجرائم، بينما في الوقت
ذاته لا يقبل مخالفة المشرع للمادة الثامنة من إعلان الحقوق، وبالتالي يراقب
التناسب الذي يقيمه المشرع بين العقوبات والجرائم.
ويحرص المجلس
الدستوري دوماً على تأكيد القيمة الدستورية للمبدأ. وأعلن أن رقابة التناسب بين
الجرائم والعقوبات، تعد من أهم واجبات المجلس الدستوري بمقتضى نص المادة (61) من
الدستور الفرنسي.
وقرر المجلس
الدستوري أن القانون المالي إذ فرض على من يذيعون حقائق الدخل الخاص بأحد الأشخاص
- من خلال إفشائهم لسريتها بالمخالفة لأحكامها - غرامة مالية يتعين دوماً توقيعها،
وتعادل في مبلغها مقدار هذا الدخل،
إنما يفقدها في عديد
من الأحوال - وبصورة صارخة - تناسبها مع الأفعال التي ارتكبوها، ويتعين لهذا
الاعتبار وحده، ودون ضرورة للخوض في غيره من مناحي الطعن على تلك المادة، تقرير
عدم دستوريتها.
كما قرر المجلس
الدستوري أن مبدأ التناسب يفرض في حالة تعدد العقوبات، ألا يزيد إجمالي هذه
العقوبات عن الحد الأقصى المقرر لأكبر عقوبة من العقوبات المحكوم بها.
التناسب بين الجريمة والعقوبة في قضاء المحكمة العليا الأمريكية:
وقد أكدت المحكمة
العليا الأمريكية أن مبدأ التناسب متجذر بعمق في " فقه الكومن لو" (Common Law)، وقد
تم التعبير عنه في " ماجنا كارتا " الذي طُبق من قبل المحاكم الإنجليزية
لعدة قرون.
وتم تكراره في وثيقة
الحقوق الإنجليزية التي اعتمدت عليها لغة التعديل الثامن للدستور الأمريكي. فحرصت على
إيجاد التوازن بين العقوبة والجريمة التي توقع من أجلها.
وذهبت إلى مراقبة
هذا التناسب في العقوبات بالنسبة إلى عقوبة الإعدام، وأصدرت أحكاماً مختلفة بشأن
كل حالة على حدة، ولكن مجموع هذه الأحكام التزم بفكرة " الطابع المعقول
للعقوبة ".
ومن ذلك؛ ما قضت به
المحكمة العليا في قضية كيندي ضد لويزيانا، حيث عرض على المحكمة قانون أصدرته
ولاية لويزيانا عام 1995، يأخذ بعقوبة الإعدام كإحدى العقوبات المقررة عن جريمة
اغتصاب طفل يقل عمره عن اثنتي عشرة سنة.
وحين قدم أحد
المتهمين للمحاكمة بمقتضى هذه المادة، قررت المحكمة العليا منح أمر إحالة لهذه
القضية لرفعها إليها، وتحددت المسألة الدستورية المطروحة على المحكمة فيما إذا كان
للولايات أن تلجأ إلى عقوبة الإعدام كإحدى العقوبات المقررة عن ارتكاب جريمة
اغتصاب الأطفال.
وقد ذهبت المحكمة
بأغلبية خمسة أصوات إلى أربعة، إلى عدم دستورية ذلك المسلك التشريعي الجنائي،
وانتهى رأى المحكمة إلى أن تقرير عقوبة الإعدام عن جريمة بقي المجني عليه فيها
حياً لا يعد متناسباً مع الجرم المرتكب، وأن مبادئ العدالة تأبى معاقبة الجاني
بعقوبة الإعدام عن جريمة لم ترتب وفاة المجني عليه.
ودعمت الأغلبية هذا
الموقف بسندين إضافيين:
أولهما؛ الاستعانة بتحليل
موقف الولايات المختلفة من عقوبة الإعدام، إذ تبين أن ستاً من الولايات فقط هي
التي تسمح بتطبيق عقوبة الإعدام عن جريمة اغتصاب الأطفال منذ عام 1964.
وتلك حقائق توضح أن
ثمة إجماعاً قومياً على عدم اللجوء إلى عقوبة الإعدام عن هذه الجريمة.
أما السند الثاني: أن تقرير عقوبة
الإعدام عن تلك الجريمة لن يترك دافعاً يحفز الجاني لكي يُبقي على حياة ضحيته بعد
ارتكاب جريمته، بل على النقيض من ذلك، فقد يشجع مثل هذا المسلك الجاني على التخلص
من ضحيته بقتلها حتى لا يترك وراءه شاهداً على جريمته، وهو الطفل المغتصب.
إلا أننا نرى أن
عقوبة الإعدام كانت متناسبة مع جريمة اغتصاب الأطفال دون الثانية عشر، وأن موقف
المحكمة العليا السابق غير جدير بالتأييد، وأن أسانيد المحكمة لا تدعم قضاءها
السابق بشكل كاف.
فوفاة المجني عليه
لم تكن أبداً معياراً حاسماً لتقرير عقوبة الإعدام في التشريعات التي أخذت بعقوبة
الإعدام، فلا ارتباطاً شرطياً بين وفاة المجني عليه وعقوبة الإعدام.
كما أن درجة الإذناب
التي تفصح عنها هذه الجريمة عالية جداً، فضلاً عن الأضرار المتعددة التي تصيب
المجني عليه - الطفل - في هذه الجريمة.
أما عن قول المحكمة
بأن الإبقاء على عقوبة الإعدام بشأن جريمة اغتصاب الأطفال قد يدفع الجاني إلى
التخلص من ضحيته لئلا يترك وراءه شاهداً وهو الطفل المعتدى عليه، فهو لا يملك القوة
الكافية لتدعيم هذا القضاء.
فالأكثر ردعاً
للجاني وصدَاً له عن ارتكاب الجريمة أن يكون عالماً من البداية أنه سيدفع حياته
ثمناً لجريمة كهذه. أما وقد ارتكبها بالفعل فلن يثنيه عن التخلص من ضحيته كونه
سيعدم أو يسجن لسنوات طويلة قد تستغرق ما تبقى من حياته.
وفي قضية United States v.
Bajakajian، أكدت المحكمة العليا أن التناسب بين الجريمة والعقوبة هو أمر
حتمي، وأن التعديل الثامن للدستور الأمريكي يجعل قدرة الدولة على فرض العقوبات
المالية محدودة في إطار مبدأ التناسب.
وقضت بناء على ذلك
بأن: فرض عقوبة مالية مقدارها (357144 دولار) عن جريمة تهريب الأموال التي تتجاوز
قيمتها (10,000 دولار) يفتقد إلى التناسب، ويخالف التعديل الثامن للدستور.
وقضت أيضاً بأن:
عقوبة الغرامة بقيمة (4 مليون دولار) التي تم فرضها على وكيل توزيع إحدى شركات
السيارات، نتيجة اكتشاف أحد العملاء أن سيارته ليست جديدة وأنه قد تم طلاؤها، هي
عقوبة مفرطة للغاية، ولا تتناسب مع الأضرار الضئيلة " نسبياً " التي
لحقت بالمشتري.
Post a Comment