ط
أخر الاخبار

المسئولية الجنائية عن فعل الغير

هل يمكن الاعتراف بالمسئولية الجنائية عن فعل الغير في مجال القانون الجنائي؟

يقتضي التسليم بمبدأ شخصية المسئولية الجنائية بمضمونه السابق، عدم جواز الاعتراف بما يسمى المسئولية عن فعل الغير في رحاب القانون الجنائي، فإن كانت تلك المسئولية تجد في القانون المدني مجالها المعتاد فإنه لا يجوز أن تتعداه إلى المسئولية الجنائية.

حيث أن المسئولية الجنائية تقوم على فكرة الإثم الشخصي لدى مرتكب الجريمة، وتمثل الإرادة الآثمة فيها جوهر الركن المعنوي وعنصراً في الفعل المادي.

المسئولية الجنائية عن فعل الغير
المسئولية الجنائية عن فعل الغير

إلا أن المشرع يخرج أحياناً عن مبدأ شخصية المسئولية الجنائية، ليقرر مسئولية الفرد عن جرائم ارتكبها - من الناحية المادية - شخص آخر.

ويعلل هذا الخروج باقتضاء مصلحة المجتمع له، لأن العقاب لا يكون فعالاً رادعاً إذا اقتصر على من ارتكب الجريمة كفاعل أو ساهم فيها كشريك، وإنما يتعين أن ينال كذلك من له الإشراف والرقابة على سلوك مرتكب الجريمة، إذ أن تهديده بالعقاب يحمله على إحكام الرقابة والحيلولة دون الجريمة.

والتكييف القانوني الصحيح لهذا النوع من المسئولية (المسئولية الجنائية عن فعل الغير)؛ أن ما يتقرر على عاتق الشخص من مسئولية في هذا الفرض، يتقرر بالنظر إلى " الفعل الشخصي " أو الخطأ الشخصي لمن يحكم بإدانته عن " فعل " غيره.

ومن ثم: فـهو لا يعـاقب عن جـريمة غيره وإنما عن جريمة خاصة به.

هل تستقيم المسئولية الجنائية عن فعل الغير مع القواعد العامة في قانون العقوبات؟

ولكن هذا الرأي لا يعني التئام المسئولية الجنائية عن فعل الغير مع القواعد العامة التئاماً تاماً. فالقانون الذي يقرر المسئولية الجنائية عن فعل الغير، يسوي بين القصد الجنائي والخطأ غير العمدي في قيام هذه المسئولية، فلا فرق في العقاب بين متعمد الإخلال بواجب الرقابة وغير متعمد.

ثم إن القانون يكتفي بالخطأ غير العمدي لكي يوقع على الجاني ذات العقاب المقرر من أجل جريمة عمدية. ونلاحظ أن القانون لا يحدد لجريمة الملتزم بالرقابة عقاباً خاصاً بها، ولكن يحيل إلى العقوبة المقررة لجريمة الخاضع للرقابة.

ولم تعترف المحكمة الدستورية العليا بالتكييف القانوني السابق للنصوص القانونية التي تقرر المسئولية الجنائية عن فعل الغير، وقضت بعدم دستورية كافة النصوص الجنائية التي عرضت عليها في هذا الخصوص، وذلك على النحو التالي:

أولاً: عدم دستورية افتراض مسئولية صاحب المحل عن الجرائم التي تقع به:

كانت المادة (58) من المرسوم بقانون رقم (95) لسنة 1945 الخاص بشئون التموين تنص على أن:

" يكون صاحب المحل مسئولاً مع مديره أو القائم على إدارته عن كل ما يقع في المحل من مخالفات لأحكام هذا المرسوم بقانون ويعاقب بالعقوبات المقررة لها، فإذا أثبت أنه بسبب الغياب أو استحالة المراقبة لم يتمكن من منع وقوع المخالفة اقتصرت العقوبة على الغرامة المبينة في المواد من (50 إلى 56) من هذا المرسوم بقانون ".

كما كانت المادة (15) من المرسوم بقانون رقم (163) لسنة 1950 الخاص بالتسعير الجبري وتحديد الأرباح تنص على أن:

" يكون صاحب المحل مسئولاً مع مديره أو القائم على إدارته عن كل ما يقع في المحل من مخالفات لأحكام هذا المرسوم بقانون ويعاقب بالعقوبات المقررة لها. فإذا ثبت أنه بسبب الغياب أو استحالة المراقبة لم يتمكن من منع وقوع المخالفة اقتصرت العقوبة على الغرامة المبينة في المادتين (9، 13) ".

ورأت المحكمة الدستورية العليا في المادتين السابقتين أن كلاً منهما: " تضمنت معاقبة صاحب المحل بعقوبة الغرامة رغم ثبوت أنه بسبب غيابه أو استحالة مراقبته لم يتمكن من منع وقوع المخالفة.

مفترضاً بذلك علمه بوقوع المخالفة ومسئوليته عنها لمجرد كونه مالكاً للمحل والترخيص صادر باسمه، وهو نوع من إقرار المسئولية الجنائية عن فعل الغير.

ومن ثم؛ فقد أقام المشرع قرينة تحكمية غير مرتكزة على أسس موضوعية، ذلك أن الواقعة البديلة التي اختارها لا ترشح في الأعم الأغلب من الأحوال لاعتبار واقعة العلم بالمخالفة ثابتة بحكم القانون ولا تربطها بالتالي علاقة منطقية بها، بل أن الثابت - وفقاً للنص - هو الاستحالة.

ومن ثم؛ فإن عمل المشرع هذا يُعد جزاءً جنائياً حدد اعتسافاً عن مخالفة لتكليف بمستحيل، لا يحقق أي مصلحة اجتماعية، ومجاوزاً موازين الاعتدال، ولا تربطه علاقة منطقية بالغرض منه، بما يخرجه عن إطار المشروعية الدستورية.

ويكون مخالفاً لمبدأ شخصية العقوبة ماساً بالحرية الشخصية ومهدراً أصل افتراض البراءة ".

وقضت المحكمة بناء على ذلك بعدم دستورية نص المادتين (58) من المرسوم بقانون رقم (95) لسنة 1945 الخاص بشئون التموين، و(15) من المرسوم بقانون رقم (163) لسنة 1950 الخاص بالتسعير الجبري وتحديد الأرباح.

ثانياً: عدم دستورية إقرار المسئولية الجنائية لمالك المنشأة عن الجرائم التي تقع من العاملين فيها:

كانت المادة (72) من قانون البيئة الصادر بالقانون رقم (4) لسنة 1994، قبل استبدالها بالقانون رقم (9) لسنة 2009 تنص على أنه:

" مع مراعاة أحكام المادة (96) من هذا القانون، يكون ممثل الشخص الاعتباري أو المعهود إليه بإدارة المنشآت المنصوص عليها في المادة (69) التي تصرف في البيئة المائية، مسئولاً عما يقع من العاملين بالمخالفة لأحكام المادة المذكورة،

وعن توفير وسائل المعالجة طبقاً للمعايير والمواصفات الواردة باللائحة التنفيذية لهذا القانون. وتوقع عليه العقوبات المنصوص عليها في المادة (87) من هذا القانون ".

وإذ عُرض أمر دستورية تلك المادة على المحكمة الدستورية العليا، بشأن ما تضمنته من إقرار لمسئولية القائم على إدارة المنشأة عن مخالفات العاملين بها، قررت المحكمة أن:

" المشرع بنص المادة (72) من قانون البيئة - قبل استبداله بالقانون رقم 9 لسنة  2009 - قد أقام قرينة قانونية غير قابلة لإثبات العكس على قيام المسئولية الجنائية في حق المعهود إليه بإدارة الشخص الاعتباري الذي تصرف منشآته أية مواد أو نفايات أو سوائل غير معالجة من شأنها إحداث تلوث في الشواطئ المصرية سواء تم ذلك بطريقة إرادية (عمدية) ومباشرة أو غير إرادية (غير عمدية).

مما مؤداه أن يكون المعهود إليه بإدارة الشخص الاعتباري مسئولاً عن الأفعال المكونة للجريمة التي ارتكبها غيره، ولم يكن له فيها أية مساهمة أصلية أو تبعية، اكتفاء بوقوع تلك الأفعال المؤثمة من العاملين بالمنشأة.

وذلك بديلاً عن أي سلوك إيجابي أو سلبي، يقوم به الركن المادي للجريمة، يصدر عن المعهود إليه بإدارة الشخص الاعتباري أو يمتنع عن مباشرته إخلالاً بالتزام قانوني.

وكان مؤدى هذه القرينة حرمان محكمة الموضوع من النظر في توافر عناصر القصد الجنائي في هذه الجريمة إذ يمتنع عليها نفي القصد الجنائي عن المعهود إليه بالإدارة ولو ثبت لديها عدم علمه بواقعة تصريف المواد الملوثة في البيئة المائية،

أو عدم اتجاه إرادته إلى المساهمة الجنائية في هذه الأفعال التي ارتكبت من عمال المنشأة المعهود إليه إدارتها، أو وقوع التلوث رغم عدم إخلاله بواجبات وظيفته على أية صورة كانت.

مما مؤداه أن المشرع قد أقام جريمة تصريف المواد الملوثة في حق المعهود إليه بإدارة المنشآت المنصوص عليها في المادة (69) من القانون ذاته دون أن يستلزم ارتكابه الركن المادي لهذه الجريمة،

ودون أن يتوفر في حقه القصد الجنائي لها من علم وإرادة إذا ما وقعت الجريمة في صورتها العمدية، أو علم بغير إرادة تحقيق النتيجة في صورتها غير العمدية،

الأمر الذي يعني أن إرادة المشرع في الإدانة حلت محل سلطة المحكمة في التحقق من توافر أركان الجريمة، كما حال النص في الوقت ذاته بين المتهم وحقه في الدفاع، فتركه نهباً لاتهام لا سبيل لنفيه ولا حيلة في دفعه ".

والمشرع بذلك قد أقر المسئولية الجنائية عن فعل الغير دون مقتضى.

وبناء على ما تقدم؛ حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة (72) من قانون البيئة الصادر بالقانون رقم (4) لسنة 1994 - قبل استبداله بالقانون رقم (9) لسنة 2009 - فيما تضمنته من إقرار مسئولية المعهود إليه بإدارة المنشآت المنصوص عليها في المادة (69) من القانون ذاته، عما يقع من العاملين فيها بالمخالفة لأحكام المادة المذكورة.

المسئولية الجنائية عن فعل الغير في فرنسا:

وفي فرنسا، ظهرت المسئولية الجنائية عن فعل الغير صراحة في بعض التشريعات، وذلك في بعض الجرائم الاقتصادية، وفي الجرائم التي تقع بالمخالفة لقانون العمل، أو بالمخالفة لقانون الضمان الاجتماعي.

إلا أن قانون العقوبات الفرنسي الجديد نص في المادة 121/1 على أنه:

" لا يسأل الشخص جنائياً إلا عن فعله الشخصي ". ويقرر هذا المبدأ انتهاء نظرية المسئولية الجنائية عن فعل الغير ووضعها في محفوظات التاريخ.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -